أبو الحسن علي بن الجهم بن بدر القرشي السامي شاعر مشهور؛ يقول الخطيب صاحب تاريخ بغداد: «له ديوان شعر مشهور، وكان جيد الشعر عالما بفنونه، وله اختصاص بجعفر المتوكل، وكان متديناً فاضلاً». كان معاصراً لأبي تمام.
غضب عليه المتوكل لهجائه، فنفاه إلى خراسان .رجع بعدها إلى العراق ثم انتقل إلى حلب، وخرج يريد الغزو فقتله فرسان من بني كلب، له ديوان وله شعر في حبسه، توفي سنة 863 م.
قيل أن أول ما قاله من هالشعر البيت التالي حيث كان صغيرا في (الكُتَّاب) اي مدرسة يحفظ فيها القرآن مع زملائه، حيث قيل عن انه عبث بلوح من الألواح التي كانوا يكتبون عليها وكتب عليه هذا البيت الرائع الجميل:
ماذا تقولين فيمن شَفهُ سَهَرٌ.....من جَهدِ حُبكِ حتى صارَ حَيرانا
وكان عمره اقل من عشر سنوات..
ويُقال أن علي بن الجهم عاش في شبابه في بيئة صحراوية قاسية، على الرغم من الشاعرية الفذة التي تتأجج في صدره، إلا ان البيئة تؤثر في الإنسان، وتتكون في شخصيته آثارها، لذا قيل عن علي بن الجهم ان قساوة البادية اثرت فيه كثيرا، ولكم هذه القصة عن علي بن الجهم.
فذات مرة ضاقت به الحال فذهب إلى المتوكل على الله لينشده الشعر، فعندما دخل على المتوكل قال:
أنت كالكلب في حِفاظِكَ للود........وكالتيسِ في قراعِ الخطوبِ
أنت كالدلوِ لا عدمناك.......... دولامن كبار الدلا كثير الذنوبِ
الذنوب: معناها كثير السيلان بسبب إمتلائه
فعندما قال هذه الأبيات لخليفة المؤمنين، أجمع الحضور على ضربه ولكن قال لهم المتوكل: أتركوه..!
لقد عرف المتوكل قوة على بن الجهم الشعرية ولكن قسواة الألفاظ تسيطر عليه بحكم البية التي يعيشها، لذلك أصدر المتوكل أمرا بأن يتم امنح على بن الجهم بيتا في بستان قريبا من الرصافة وهي مدينة عند جسر بغداد. وكان تلك المنظقة خضراء يانعة، وفيها سوق، وكان علي بن الجهم يرى الناس والسوق والخضرة والنضرة، والجمال في ذلك الحي.
وبعد فترة من الزمن، وبعد أن تأقلم على بن الجهم على ذلك المكان دعاه المتوكل وجمع الناس وقال لعلي بن الجهم أنشدنا شعرا. فقال علي بن الجهم قصيدة تعتبر اروع ما قاله، حتى قال عنها الشعراء، لو لم يكن لديه إلا هي تكفيه أن يكون اشعر الناس. فقال على بن الجهم
عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِوالجسر
جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن
سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ
سَلِمنَ وَأَسلَمنَ القُلوبَ كَأَنَّما
تُشَكُّ بِأَطرافِ المُثَقَّفَةِ السُمرِ
وَقُلنَ لَنا نَحنُ الأَهِلَّةُ إِنَّما
تُضيءُ لِمَن يَسري بِلَيلٍ وَلا تَقري
فَلا بَذلَ إِلّا ما تَزَوَّدَ ناظِرٌ
وَلا وَصلَ إِلّا بِالخَيالِ الَّذي يَسري
أحينَ أزحنَ القَلبَ عَن مُستَقَرِّهِ
وَأَلهَبنَ ما بَينَ الجَوانِحِ وَالصَدرِ
صددنَ صدودَ الشاربِ الخمر عندما
روى نفسَهُ عن شربها خيفةَ السكرِ
ألا قَبلَ أَن يَبدو المَشيبُ بَدَأنَني
بِيَأسٍ مُبينٍ أَو جَنَحنَ إِلى الغَدرِ
فَإِن حُلنَ أَو أَنكَرنَ عَهداً عَهِدنَهُ
فَغَيرُ بَديعٍ لِلغَواني وَلا نُكرِ
وَلكِنَّهُ أَودى الشَبابُ وَإِنَّما
تُصادُ المَها بَينَ الشَبيبَةِ وَالوَفرِ
كَفى بِالهَوى شُغلاً وَبِالشَيبِ زاجِراً
لَوَ اَنَّ الهَوى مِمّا يُنَهنَهُ بِالزَجرِ
أَما وَمَشيبٍ راعَهُنَّ لَرُبَّما
غَمَزنَ بَناناً بَينَ سَحرٍ إِلى نَحرِ
وَبِتنا عَلى رَغمِ الوُشاةِ كَأَنَّنا
خَليطانِ مِن ماءِ الغَمامَةِ وَالخَمرِ
خَليلَيَّ ما أَحلى الهَوى وَأَمَرَّهُ
وَأَعلَمَني بِالحُلوِ مِنهُ وَبِالمُرِّ
بِما بَينَنا مِن حُرمَةٍ هَل رَأَيتُما
أَرَقَّ مِنَ الشَكوى وَأَقسى مِنَ الهَجرِ
وَأَفضَحَ مِن عَينِ المُحِبِّ لِسِرِّهِ
وَلا سِيَّما إِن أَطلَقَت عَبرَةً تَجري
وَما أَنسَ مِ الأَشياءِ لا أَنسَ قَولَها
لِجارَتِها ما أَولَعَ الحُبَّ بِالحُرِّ
فَقالَت لَها الأُخرى فَما لِصَديقِنا
مُعَنّىً وَهَل في قَتلِهِ لَكِ مِن عُذرِ
عِديهِ لَعَلَّ الوَصلَ يُحييهِ وَاِعلَمي
بِأَنَّ أَسيرَ الحُبِّ في أَعظَمِ الأَمرِ
فَقالَت أَداري الناسَ عَنهُ وَقَلَّما
يَطيبُ الهَوى إِلّا لِمُنهَتِكِ السِترِ
وَأَيقَنَتا أَن قَد سَمِعتُ فَقالَتا
مَنِ الطارِقُ المُصغي إِلَينا وَما نَدري
فَقُلتُ فَتىً إِن شِئتُما كَتَمَ الهَوى
وَإِلّا فَخَلّاعُ الأَعنَّةِ وَالعُذرِ
عَلى أَنَّهُ يَشكو ظَلوماً وَبُخلَها
عَلَيهِ بِتَسليمِ البَشاشَةِ وَالبِشرِ
فَقالَت هُجينا قُلتُ قَد كانَ بَعضُ ما
ذَكَرتِ لَعَلَّ الشَرَّ يُدفَعُ بِالشَرِّ
فَقالَت كَأَنّي بِالقَوافي سَوائِراً
يَرِدنَ بِنا مِصراً وَيَصدُرنَ عَن مِصرِ
فَقُلتُ أَسَأتِ الظَنَّ بي لَستُ شاعِراً
وَإِن كانَ أَحياناً يَجيشُ بِهِ صَدري
صِلي وَاِسأَلي مَن شِئتِ يُخبِركِ أَنَّني
عَلى كُلِّ حالٍ نِعمَ مُستَودَعُ السِرِّ
وَما أَنا مِمَّن سارَ بِالشِعرِ ذِكرُهُ
وَلكِنَّ أَشعاري يُسَيِّرُها ذِكري
وله ايضا:
يَحزُنُني أَن لا أَرى مَن أُحِبُّهُ ...وَأَنَّ مَعي مَن لا أُحِبُّ مُقيمُ
أَحِنُّ إِلى بابِ الحَبيبِ وَأَهلِهِ ..... وَأُشفِقُ مِن وَجدٍ بِهِ وَأَهيمُ
وَإِنّي لَمَشغوفٌ مِنَ الوَجدِ وَالهَوى ... وَشَوقي إِلى وَجهِ الحَبيبِ عَظيمُ
وَقَد ضاقَت الدُنيا عَلَيَّ بِرُحبِها .... فَيالَيتَ مَن أَهوى بِذاكَ عَليمُ
وله ايضا:
يَشتاقُ كُلُّ غَريبٍ عِندَ غُربَتِهِ وَيَذكُرُ الأَهلَ وَالجيرانَ وَالوَطَنا
وبعد أن إنتهى على بن الجهم من قصيدته.. اصيب الجميع بالدهشة، لا يعقل من كان يقول كالكلب وكالدلو أن يأتي بهذا الكلام فائق الروعة..
فسكت الخليفة المتوكل وكأنه خائف على علي بن الجهم. فقال له الحاضرون : ما بالك يا أمير المؤمنين.
فقال:
(((((إني اخشى عليه أن يذوب رقة)))))!!!!!!
سوريا ياحبيبتي
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)