تتمة العصر العباسي ]
[ تتمة خلافة الراضي بالله ]
الحمد لله العدل
حكاية عن بجكم تدل على دهاء وفكر
حكى أبو زكريّا يحيى بن سعيد السوسي قال: لمّا ترسّلت بين بجكم وبين ابن رائق أشرت على بجكم بأن لا يكاشف ابن رائق فسألنى عن السبب الذي من أجله أشرت عليه بذلك فقلت:
« لأنّ بغداد في يده والخليفة معه والرئاسة ولأنّ الجيش معه كثير والأعمال والأموال في يده والمال في يدك قليل وعدّة من معك يسير. » فقال لي:
« أمّا كثرة رجاله فهم جوز فارغ قد خبرتهم وعرفتهم وما أبالى كثروا أم قلّوا وكون الخليفة معه لا يضرّنى عند أصحابي. فأمّا ما توهّمته من قلّة المال معي فليس الأمر فيه كما ظننته وقد وفيت أصحابي استحقاقاتهم وما لأحد عليّ منهم مطالبة وفي صناديقى معي مال يستظهر به، فكم تظنّ مبلغه؟ » قلت: « لا أدري. » فقال: « على كلّ حال. »
فقلت: « مائة ألف درهم. » فقال: « غفر الله لك معي خمسون ألف دينار لا أحتاج إليها. » قال: فقلت له:
« أنت أعلم وما تختار. » قال: فلمّا هرب ابن رائق وملك بجكم قال لي يوما:
« أتذكر وقد قلت لك إنّ المال معي كثير وظننت أنّه مائة ألف درهم فعرّفتك أنّه خمسون ألف دينار؟ » فقلت: « نعم. » قال: « أفتدري كم كان بالحقيقة معي؟ » قلت: « لا. » قال: « خمسين ألف درهم. » قلت: « هذا يدلّ على أنك لم تثق بي ولم تصدقني. » قال: « لا ولكنّك صاحبي ورسولي فكرهت أن تعلم صحته في القلّة فيضعف قلبك وإذا ضعف قلبك ضعف كلامك فيطمع ذلك فيّ خصمي وأردت أن تمضى إليه بقلب قويّ فتخاطبه بما ينخب قلبه ويضعف نفسه. » وفي هذه السنة تغلّب اللشكري بن مردى على أذربيجان وهذا غير اللشكري الذي تقدّم خبره، وكان أوجه من ذاك وأكبر مرتبة وكان من أصحاب وشمكير وخليفته على أعمال الجبل. فجمع مالا كثيرا ورجلا وخلّف صاحبه وسار إلى أذربيجان ليستولى عليها. وكان بها يومئذ ديسم بن إبراهيم فجمع ديسم عسكرا كثيرا من الأكراد وأصناف أخر وأحرز سواده في بعض الجهات وأقبل إلى اللشكري فواقعه دفعتين في مدّة شهرين وانهزم ديسم فيهما جميعا.
واستولى اللشكري على بلاده إلّا أردبيل فإنّ أهلها أجلاد ولهم بأس شديد وهم حملة سلاح ومدينتهم محصّنة بسور وهي قصبة أذربيجان ودار المملكة. فراسلهم اللشكري ورفق بهم ووعدهم الإحسان فأبوا عليه لما كان عندهم من أخبار الجيل ومعاملتهم أهل همذان وغيرها بأنواع الألم.
فحاصرهم اللشكري وطالت الحرب بينه وبينهم إلى أن تمكّن طائفة من أصحابه يوما من السور فصعدوه ونقبوا أيضا عدّة نقوب فيه وفتحوا الباب وتمكّنوا من الدخول وأدركهم الليل.
ذكر إضاعة حزم من اللشكري بعد هذه الحال حتى هرب وقتل أكثر أصحابه
إنّ اللشكري لمّا تمكّن من أردبيل سكنت نفسه إلى الظفر وأشفق أن ينتهب البلد وتذهب الأموال عن يده وعن أيدى أصحابها. فرأى أن ينصرف إلى معسكره وكان على ميل من البلد فيبيت ثم يصبح فيدخل المدينة نهارا.
فلمّا فعل ذلك بادر أهل المدينة إلى سدّ تلك الثلم وإحكامها وأغلقوا الأبواب وعاودوا الحرب، فتحيّر اللشكري وعلم أنّه فرط حين لم يدخل المدينة ليلا أو يوكّل بالثلم من يحفظها. وأقبل قوّاده عليه يلومونه ويستعجزونه فلم يكن عنده إلّا الاعتراف بالخطإ.
وبادر أهل المدينة برسلهم إلى ديسم يعرّفونه الصورة ويشيرون عليه بالمبادرة في يوم يعيّنه حتى يخرجوا لمحاربته ويكبّ ديسم من ورائه فتمّت لهم الحيلة وأقبل ديسم في ذلك اليوم بجموع كثيرة من الصعاليك والأكراد وخرج أهل المدينة بزيّ الديلم معهم التراس والزوبينات وهم نحو عشرة آلاف رجل فصافّهم الحرب وخرج ديسم من ورائه فحمل عليهم فانهزم أقبح هزيمة وقتل أصحابه مقتلة عظيمة وذهب نحو موقان محروبا مسلوبا ليس معه كراع ولا سلاح.
فخرج إليه اصفهبذ موقان ويعرف بابن داولة متلقيا فأضافه مع قوّاده فشكره اللشكري وسأله أن يقيم بضيافة أصحابه إلى أن يمضى هو إلى بلده - وكانت بينه وبينها مسيرة أربعة أيّام - فيستخرج ذخائره ويخرج معه ابنه وأخاه ويجمع الرجال فأجابه ابن داولة. ومضى اللشكري مخفا وعاد سريعا ومعه ابنه وابن أخيه وألف رجل من أحداث الجيل مستظهرين بالسلاح والآلات، وعطف على أذربيجان طالبا ديسم وساعده ابن دلوله الاصفهبذ في أصحابه. فهرب ديسم وعبر نهرا يقال له: الرس وماؤه شديد الجرية وأخذ المعابر إلى الجانب الذي حصل فيه. ونازله اللشكري مقيما بازائه مدّة لا يصل إليه فاجتمع إليه ابنه وابن أخيه وأحداث الجيل وجميعهم سبّاح لأنّ بلادهم على شاطئ البحر وأعلموه أنّهم تتبّعوا هذا النهر من أعلاه إلى أسفله فوجدوه على ثلاثة فراسخ من معسكرهم موضعا منه ساكن الجرية واستأذنوه في المخاطرة والعبور فأذن لهم. فصاروا إلى الموضع ليلا ومعهم جماعة من البوقيّين بتراسهم وأسلحتهم وزحفوا إلى عسكر ديسم وضربوا بالبوقات وقتلوا نفرا فانهزم ديسم واستولى الجيل على أموالهم وسوادهم واستغنوا بما حصل لهم وتمّ الظفر للشكري.
وقصد ديسم وشمكير وهو بالريّ فأعلمه ما جرى عليه من اللشكري وأنّه قد تمكّن من أذربيجان وطابقه ابن دلوله اصفهبذ موقان وأنّ بلاد الجيل قريبة منه والاستمداد سهل عليه وأنّه لا يلبث أن يقصد الريّ وينازعه إيّاها ويلتمس منه عسكرا من الجيل والديلم ليكون بإزاء اللشكري وأصحابه، وواقفه أن يجمع إليه من الأكراد وغيرهم عشرة آلاف رجل فرسانا وأن يقوم بنفقة العسكر يوم دخوله الخونج وهو أوّل حدود أذربيجان من ناحية الريّ وأن يقيم الخطبة على منابر أذربيجان كلّها ويحمل إليه في كلّ سنة مائة ألف دينار خالصة ويردّ إليه العسكر الذي يجرّد معه بعد فراغه من أمر اللشكري. فلمّا سمع وشمكير ذلك أهمّه هذا الخطب واستجاب ديسم إلى كلّ ما يلتمسه وأخذ كلّ واحد منهما على صاحبه العهد والميثاق بالوفاء وابتدأ بتجريد العسكر.
فإلى أن يتكامل ذلك ورد الخبر بوفاة ابن داولة الاصفهبذ وخلق كثير من أصحابه بعلّة الجدري وأقام بقية أصحابه مع اللشكري فأنفذ اللشكري بقائد كبير من أصحابه يقال له: بلسوار بن ملك بن مسافر وهو ابن أخي محمّد بن مسافر اللشكري إلى نواحي الميانج - وهي تجرى مجرى الثغر - بينه وبين وشمكير وأمره أن يحفظ الطرق ويتتبّع المجتازين ويفتشهم ويقرأ كتبهم تحرّزا واستظهارا. فلم يلبث بلسوار أن ظفر بفيج معه كتب من قوّاد عسكر اللشكري إلى وشمكير بالاعتذار إليه من دخولهم في طاعة اللشكري وإنّهم إنّما دخلوا معه وعندهم أنّه على طاعتهم وأنهم إن رأوا راية من راياته قد أقبلت إليهم انحازوا إليها وصاروا بأجمعهم عليه. فلمّا وقف اللشكري على هذه الكتب طواها وستر خبرها.
وورد عليه انفصال ديسم عن الريّ في عسكر وشمكير مع حاجبه الشابشتى فركب إلى الصحراء وجمع قوّاده وعرّفهم إقبال العسكر إليه وأنه يتخوّف أن يشتغل بحرب الجيل والديلم فيأتيه ديسم من ورائه ويجرى الأمر كما جرى في وقعة أردبيل وأنّه قد عزم أن يرحل بهم إلى بلاد الأرمن فيغزوهم ويستبيح أموالهم ويبعد عنهم إلى الموصل وديار ربيعة فإنها بلاد كثيرة الغلّات والأموال واسعة والرجال بها قليل. فساعدوه على ذلك ورحل بهم إلى أرمينية وأهلها غارّون. فنهبهم واستباح أموالهم ومواشيهم وسبى خلقا كثيرا وانتهى إلى زوزان وفي يده وأيدى قوّاده من المواشي التي غنموها شيء كثير لا ينضبط ولا يعرفون مبلغها وقد وكّلوا بها الرعاة فكانوا يخرجونها إلى مسارحها بكرة ويردّونها عشية إلى معسكرهم.
وكان بالقرب من زوزان قلعة للأرمن فيها عظيم من عظمائهم يقال له: أطوم بن جرجين وهو قريب لابن الديراني ملك الأرمن. فسأل اللشكري بمراسلة لطيفة أن يكفّ عن الأرمن فإنّهم معاهدون يؤدون الأتاوة وأطمعه في مال يحمل إليه صلحا فأجابه إلى ما طلبه.
ذكر حيلة تمت لهذا الأرمني على اللشكري حتى قتله ومعظم أصحابه
كان هذا الأرمنيّ عرف سرعة ركاب اللشكري وخفّته وأنه يقدم بلا روية ويتسرع بلا تدبير. فكمن كمينا على جبلين بالقرب من موضعه الذي كان معسكرا فيه بينهما مسلك مضيق، ثم دسّ إلى المواشي التي معه جماعة من الأرمن حتى قتلوا رعاءها واستاقوها في ذلك المضيق وهرب بعض الرعاء إلى اللشكري مجروحا فصادفه خارجا من الحمّام في سوق زوزان فأخبره الخبر، فسار لوقته وأخذ ذلك الراعي بين يديه ليدلّه على الطريق وليس معه إلّا ستّة نفر من غلمانه أخذهم فتح اللشكري - وهو أحد قوّاد السلطان بمدينة السلام وقد شاهدته - وكان موصوفا بالبسالة والشجاعة وراسل باقى أصحابه في العسكر أن يلحقوه.
ذكر اتفاق حسن اتفق لفتح هذا الغلام حتى سلم وحده من القتل
اتّفق أن غمزت دابّة كاتبه لما قضاه الله من سلامته فنزل لينظر ويصلح حافرها فسبقه اللشكري ولم يعرج عليه ومضى مع الخمسة النفر الذين بقوا معه، فوصل إلى المضيق قبل أن يلحقه أصحابه الذين استدعاهم من المعسكر وولج الموضع فلمّا توسّطه ثار إليه الكمناء فقتلوه والغلمان الذين معه وأخذوا رؤوسهم وأسلابهم وتركوا جثثهم ومضوا.
ثم وصل العسكر إلى الفتح هذا الغلام وتبعوا اللشكري، فلمّا رأوا جماعتهم عرفوهم فانصرفوا معتزلين واجتمع أهل عسكره فعقدوا الرئاسة لابنه لشكرستان وتقرر الرأي بينهم ليحرزوا سوادهم وأثقالهم وغنائمهم من ورائها ويرجعوا إلى بلد أطوم بن جرجين فيدركوا ثأرهم منه ويأتوا عليه قتلا ونهبا.
ذكر حيلة تمت عليهم ثانية حتى قتلوا بأجمعهم إلا نفر يسير جدا وذلك لقلة احتراسهم من المضائق وجهلهم المسالك واغترارهم بالشدة
كان أطوم بن جرجين بثّ جواسيسه ليعرف أخبارهم واطّلع على هذه العزيمة منهم فسبقهم بأن رتب على رؤوس الجبال في طريقهم جموعا من الأرمن يرمونهم بالحجارة وكان طريقهم من هذه الجبال على موضع عرضه نحو خمسة أذرع وعلى يسرته الجبل وعن يمينه نهر عظيم جار والمهوى إليه أكثر من مائة ذراع. ووقف الأرمن متمكّنين على هذا الموضع وسار أطوم بنفسه من قلعته في نفر فكمن على طريق المضيق حتى ان أفلت انسان منهم أوقع به.
فلمّا انتهى الجيل والديلم إلى ذلك المضيق أرسلوا عليهم الحجارة فكانت الصخرة تأتى فتصدم الراكب والمركوب والرجّالة والبهائم والجمال فلا يمتنع منها شيء ويسقطون إلى النهر ويتلفون.
فترجّل قوم من الفرسان ودخلوا من قوائم الدوابّ فربّما سلم الواحد بعد الواحد. فهلك في ذلك الموضع أكثر من خمسة آلاف رجل وسلم جماعة لشكرستان فيمن سلم ومضى بمن معه إلى ناصر الدولة وهو بالموصل لائذين به فنزلهم بشيء من الأرزاق يسير فاختار بعضهم أن يقبض نفقة وينصرف عنه واختار بعضهم أن يقيم مع لشكرستان فأمّا الذين قبضوا النفقات فأخذوا جوازات وانحدروا إلى واسط لاحقين ببجكم. وأمّا الباقون فإنّهم كانوا خمسمائة رجل فجرّدهم ناصر الدولة مع ابن عمّه أبي عبد الله الحسين بن حمدان من أذربيجان لمّا أقبل إليها ديسم الكردي. وكان ديسم هذا من قوّاد ابن أبي الساج وكان أبو عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان مقلّدا من قبل بن عمّه أبي محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان ناصر الدولة أعمال المعاون بأذربيجان.
وفيها اختصّ قاضى القضاة أبو الحسين عمر بن محمّد بالراضى بالله حتى حلّ محلّ الوزراء وصار الراضي يشاوره في الأمور ويدخله في التدبير ويصل إليه مع عبد الله بن عليّ النفرى خليفة الوزير الفضل بن جعفر ولا ينفذ أمرا إلّا بعد مشورته.
وفيها قصد الراضي بالله وبجكم معه ديار ربيعة والموصل
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك انّ ناصر الدولة أخرّ ما اجتمع عليه من مال الحمل الذي كان في ضمانه للموصل وأخرّ مال الضياع التي في عمله بخدمة الراضي بالله فكان الراضي مغيظا عليه، فاجتمع رأيه مع بجكم على قصده.
ودخلت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة
فلمّا كان يوم الثلاثاء لثلاث خلون من المحرّم خرجا وأقام الراضي بتكريت ونفذ بجكم إلى الموصل في الجانب الشرقي من دجلة. فتلقّته زواريق أنفذها ناصر الدولة فيها دقيق وشعير وحيوان هدية إلى الراضي.
فأخذها بجكم وفرّق ما فيها على حاشيته وأصحابه وفرّغها وعبر فيها إلى الجانب الغربي وسار حتى لقي ناصر الدولة بالكحيل وجرت بينهما وقعة وانهزم فيها أصحاب بجكم. ثم حمل بجكم بنفسه على ناصر الدولة حملة حقّق فيها فانهزم وتبعه بجكم ولم ينزل الموصل إلى أن بلغ نصيبين.
ومضى ابن حمدان على وجهه إلى آمد وأقام بجكم بنصيبين وكتب إلى الراضي بالله بالفتح. فلمّا ورد كتابه بالفتح على الراضي بالله سار من تكريت يريد الموصل وكان مسيره في الماء.
وكان قبل ورود كتاب بجكم بالفتح قد لحق القرامطة الذين مع الراضي بتكريت مضايقة في أرزاقهم فانصرفوا مغضبين إلى بغداد. فلمّا وصلوا إليها ظهر ابن رائق من استتاره ببغداد وانضمّوا إليه. ويقال: إنّ انصرافهم من تكريت كان بمراسلة منه إليهم ومكاتبة في اجتذابهم.
وورد الخبر بذلك مع طائر إلى تكريت فخاف الراضي أن يسرى إليه ابن رائق والقرامطة فيأخذونه فخرج من الماء مبادرا وركب الظهر وسار إلى الموصل ودخلها ومعه عليّ بن خلف بن طناب كاتبه وهو قلق من ابن رائق.
ولمّا بلغ الحسن ابن عبد الله بن حمدان انصراف بجكم من نصيبين سار من آمد إليها. فانصرف عنها وعن أعمال ديار ربيعة من كان خلفه بجكم فيها من قوّاده وصاروا إلى الموصل وحصلت ديار ربيعة في يد ابن حمدان فزاد ذلك في قلق بجكم. وأخذ أصحاب بجكم يتسلّلون ويخرجون من الموصل إلى بغداد حتى احتاج بجكم إلى أن يسدّ أبواب دروب الموصل ويحفظ أصحابه وزاد ذلك في اضطراب بجكم إلى أن قال:
« حصلنا على أن يكون في يد الخليفة وأمير الأمراء قصبة الموصل فقط. » وأنفذ بن حمدان - قبل أن يتصل به خبر ابن رائق وظهوره ببغداد - أبا أحمد الطالقاني الذي كان أسره إلى بجكم يلتمس الصلح ويبذل أن يقدّم خمسمائة ألف درهم معجلة.
فلمّا ورد الرسول وأدّى الرسالة فرّج عن بجكم وفرّج بأن ابتدأه بنو حمدان بمسألة الصلح وكان فكر في تسليم الموصل إليه والانحدار لدفع ابن رائق. فبادر وركب من وقته إلى الراضي وعرّفه ما ورد به الطالقاني واستأذنه في إمضاء الصلح. فامتنع الراضي لشدّة غيظه على ابن حمدان.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
فعرّفه أنّ الصواب في اجابته إليه والمبادرة إلى بغداد التي خرجت عن يده وهي دار الملك فأذن له في المصالحة. فردّ من يومه الطالقاني بالصلح وأنفذ معه الخلع واللواء والقاضي أبا الحسين ابن أبي الشوارب ليستحلف ابن حمدان ورجع مع مال التعجيل.
وبعد نفوذ الطالقاني جاء جعفر بن ورقاء وتكينك من عند بجكم إلى الموصل ثم تبعهما محمّد بن ينال الترجمان في مرقعة منهزمين من يد ابن رائق ووصفوا أنّه لمّا ظهر من استتاره ببغداد انضمّ إليه ثلاثمائة رجل من القرامطة فلقيه بديع غلام جعفر بن ورقاء وانهزم بديع وخرج إلى ابن رائق وهو بالمصلّى جماعة من الجند والحجريّة وخلق من العامّة وقالوا:
« نحن نقاتل بين يديك. » فأعطاهم خمسة دراهم وثلاثة دراهم.
وكان جعفر بن ورقاء وأحمد بن خاقان وابن بدر الشرابي في دار السلطان وما يليها فراسلهم ابن رائق وسألهم الإفراج له ليمضى إلى داره التي هي دار مونس. فأنزلها بجكم فمنعوه من ذلك فقاتلهم وانهزموا وقتل ابن بدر، واستأمن إلى ابن رائق جماعة من الرجال، فوعدهم بالعطاء وأعطاهم خواتيم طين تذكرة بالمواعيد، وصار إلى دار السلطان [ ولم يدخلها صيانة ] لمن فيها وراسل والدة الراضي بالله وحرمه برسالة جميلة وصار إلى دار مونس التي كان ينزلها بجكم فقاتله تكينك عنها وانهزم تكينك وملك ابن رائق الدار.
ثم أقبل محمّد بن ينال الترجمان من واسط في أربعة آلاف من الأتراك والديلم وغيرهم ليدفع ابن رائق عن بغداد فتلقّاه ابن رائق بالنهروان وجرت بينهم حرب شديد وانهزم الترجمان وصار في مرقّعة إلى الموصل.
وأقبل ابن رائق يثير ودائع بجكم وأمواله وأنفذ أبا جعفر ابن شيرزاد إلى بجكم بجواب الصلح منه فتقدّم إليه بجكم المقام وأنفذ بجواب الرسالة قاضى القضاة أبا الحسين عمر على أن يقلّد طريق الفرات وديار مضر وجند قنّسرين والعواصم وينفذ إليها. ورجع الطالقاني وابن أبي الشوارب القاضي من عند ابن حمدان بتمام الصلح وبعض المال فانحدر الراضي وبجكم من الموصل ولمّا صار قاضى القضاة إلى ابن رائق لقيه وقرّر أمره على تقلّد الأعمال التي تقدّم ذكرها فخرج ابن رائق من بغداد متوجّها إلى أعماله ووصل الراضي وبجكم إلى بغداد يوم السبت لتسع خلون من شهر ربيع الأوّل.
موت الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات وتقليد أبي جعفر محمد بن شيرزاد الوزارة
وفيها مات الوزير أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بالرملة.
وكان الراضي أنفذ خادما يستدعيه فوصل الخادم وقد مات. فكانت مدّة وقوع اسم الوزارة عليه سنة واحدة وثمانية أشهر وخمسة وعشرين يوما.
وقلّد مكانه أبا جعفر محمّد بن يحيى بن شيرزاد وسلّم إليه عليّ بن خلف، فصادره على خمسين ألف دينار وسفّر أبو جعفر بن شيرزاد في الصلح بين بجكم وبين البريدي. فتمّ ما شرع فيه وضمن أبو عبد الله البريدي أعمال واسط بستمائة ألف دينار في السنة.
ولمّا اتّفق موت الوزير أبي الفتح وصولح البريدي شرع أبو جعفر ابن شيرزاد في تقليد أبي عبد الله البريدي الوزارة وأشار بذلك فأنفذ الراضي بالله أبا الحسين إلى أبي عبد الله البريدي في تقلّد الوزارة، فامتنع منها، ثم استجاب إليها، وتقلّد الوزارة وخلّفه عبد الله بن عليّ النّفري بالحضرة كما كان يخلّف الفضل بن جعفر.
وكان بجكم قلّد بالبا التركيّ أعمال المعاون بالأنبار فكاتبه يلتمس منه أن يقلّده أعمال طريق الفرات بأسرها ليكون في وجه ابن رائق وهو بالشام.
فقلّده ذلك فنفذ إلى الرحبة وغلب عليها وكاتب ابن رائق وأقام له الدعوة في أعمال طريق الفرات وعظم أمره بها واتصل خبره ببجكم.
ذكر سرعة تلافى بجكم أمر بالبا قبل أن يستفحل
أنفذ بجكم غلامه يوستكين وعدلا حاجبه وقطعة من جيشه نحو أربعمائة رجل فوصلوا إلى الأنبار وقت العصر من يومهم وساروا من سحر ليلتهم إلى هيت وأخذوا منها الأدلّاء فسلكوا طريق البرّيّة ووصلوا إلى الرحبة في خمسة أيّام فدخلوها من بابين من أبواب الرحبة وجميع ذلك بوصيّة بجكم ورسمه، فعملا بما رسم. فعرف بالبا الخبر وهو على طعامه فوثب إلى سطح واستتر عند بعض الحاكة وأخذ من عنده وانحدروا به إلى الأنبار. ثم أدخلاه بغداد مشهّرا على جمل عليه نقنق وهو مصلوب ثم خفى أمره فيقال ان بجكم سمّه.
ودخلت سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة
وفيها تزوّج بجكم سارة بنت الوزير أبي عبد الله أحمد بن محمّد البريدي بحضرة الراضي على صداق مائتي ألف درهم.
واشتدّ أبو جعفر ابن شيرزاد في معاملة التنّاء وزاد في المساحة واحتجّ عليهم بعلوّ الأسعار ووفورها وطالبهم بالترييع والتسعير والسلف وأظهر ظلمه.
وفيها سار الأمير أبو عليّ الحسن بن بويه إلى واسط وكان البريديّون بها.
فأقام الأمير أبو عليّ في الجانب الشرقي منها والبريديّون في الجانب الغربي.
ذكر السبب في ذلك
كان أبو عبد الله أنفذ جيشا إلى السوس وقتل قائدا من الديلم.
واضطرّ أبا جعفر الصيمري إلى التحصّن بقلعة السوس وكان متقلّدا أعمال الخراج بها. وخاف أبو الحسين أحمد بن بويه أن يصير البريدي إلى الأهواز من البصرة وكان أبو عليّ الحسن بن بويه أخوه مقيما بباب إصطخر فكتب إليه أبو الحسين أخوه يستنجده فوافاه يطوى المنازل طيّا في عشرة أيّام.
وكانت الضرورة دعت أبا الحسين أحمد بن بويه إلى أن خرج من السوس. فلمّا وصل أخوه أبو عليّ إلى السوس دخل أبو الحسين أحمد بن بويه الأهواز وكان أصحاب وشمكير قد تغلّبوا على إصبهان. فسار الأمير أبو عليّ الحسن بن بويه إلى واسط طمعا في أن يحصل له، فاضطرب رجاله لأنّه ما كان أنفق فيهم منذ سنة واستأمن من أصحابه مائة رجل إلى البريديين. وسار بجكم والراضي من بغداد لحربه فأشفق أن يقع التضافر عليه ويستأمن من رجاله. فانصرف إلى الأهواز ومنها إلى رامهرمز. ثم سار إلى إصبهان ففتحها واستأسر بضعة عشر قائدا من قوّاد وشمكير ورجع الراضي بالله وبجكم إلى بغداد.
وفيها خرج بجكم إلى الجبل فلمّا بلغ قرميسين عاد إلى بغداد ومعه مستأمنه الديلم.
ذكر السبب في خروج بجكم إلى الجبال ورجوعه عنها وسبب فساد الحال بينه وبين البريدي بعد الوصلة والصلاح
لمّا صاهر بجكم البريدي وخلّص ما بينهما كاتبه أن ينفذ إلى الجبل لفتحها وأن يخرج هو إلى الأهواز لفتحها ودفع أبي الحسين أحمد بن بويه عنها. وأنفذ إليه حاجبه عدلا في خمسمائة رجل نجدة ليضمّهم إلى رجاله.
قال أبو زكريا السوسي: وأخرجنى معه لأن أزعجه وأحثّه على المسير مع الجيش كلّه إذ كان ابتداؤهم بالسوس. قال: فحصلت بواسط وأظهر البريدي بما وردت وعدل الحاجب له، حتى إذا حصل بجكم بحلوان طمع البريدي في المسير إلى بغداد وأخذ الدفائن التي لبجكم في داره والعود بها إلى واسط وكانت عظيمة. فما زال يتربّص ويدافع، ويقدّم رجلا ويؤخّر أخرى، تارة تشره نفسه إلى المال وتارة يرهب من مكاشفة بجكم، ويتوقّع مع ذلك دائرة على بجكم من قتل أو هزيمة فيتمكّن ممّا يريد.
وامتدّت أيّامنا حتى أقمنا زيادة على شهر وكتب بجكم ترد علينا بأن نعرّفه ما علمناه فإذا أقرأناها البريدي قال:
« أنا سائر غير متلوّم. » ثم يتراخى ففطنّا لما في نفسه وقلت لعدل سرّا:
« أنفذ إلى بجكم من يعرّفه الخبر. » فبادر إليه بركابيّ يثق به. فلمّا وصل إلى بجكم لم يلبث أن ركب الجمّازات ووافى مدينة السلام وخلّف عسكره وراءه.
وسقطت الأطيار على البريدي بدخول بجكم بغداد وأنّه لا يدرى أهو منهزم أم مجتاز فأبلس ودهش وتحيّر وهمّ بالقبض عليّ وجذبني إلى البصرة وعملت أنا على الاستتار فخفت أن يثيرنى ويخرجني لأنّ واسط بلد صغير فكنت على ذلك أتردّد إليه متجلّدا. ثم دعاني وقت العصر بعدّة غلمان فلم أشك في أنّه للقبض عليّ. فوصلت إليه وقت المغرب وقد قام فدخل إلى كلّة له هربا من البقّ فقال لي:
« عرفت الخبر؟ » قلت: « ما ذا؟ » فقال: « سقط طائر قبل العصر بأنّ بجكم قد سار إلى واسط. » فقلت: « هذا باطل متى ورد بغداد ومتى خرج؟ » فقال: « دع هذا عنك، فإني لا أشكّ فيه. قم اخرج الساعة إليه وأزل ما أوحشه مني وهات يدك. » فناولته إيّاها وجعلها على أذنه وقال:
« خذنى إلى النخّاسين وبعني فإني لا أخالفك، واكفني هذا الباب ولا تسألنى عمّا تعمل. » فقبّلت يده ورجله والأرض بين يديه وقلت له:
« أمضى أتأهّب. » فقال: « قد تأهّبت لك وقدّم لك طيّار وجرّدت خمسين غلاما لبدرقتك وانزل إلى الطيّار ففيه زاد يكفيك إلى الحضرة وغلمانك يتلاحقون بك. » فلم أتمالك سرورا ثم خشيت أن يكون قد اغتالنى وإني أخرج فيؤخذ بي إلى البصرة. ونهضت من عنده فما تاب إليّ عقلي إلّا بفم الصلح. فلمّا وصلت إلى نهر سابس لقيني خادم من دارى ببغداد برسالة بجكم إليّ أن استتر، وأسرّ بذلك إليّ وسألنى من معي من غلمان البريدي عمّا ورد به الخادم فعرّفتهم أنّه أخبرني بحال عليلة لي وأنّها مشفية، وسرت مبادرا.
وأصبح البريدي نادما على إنفاذه إيّاى ووجّه خلفي من يطلبني لأنّ طائرا سقط عليه بما آيسه من صلاح بجكم له، وأغرى بي في الكتاب فكفانى الله.
ووصلت إلى دير العاقول وبها أحمد بن نصر القشوري. فخرجت إليه وأراد أن يأخذ الطيّار ويوقع بالغلمان. فلم أتركه وبرزت للغلمان ورددتهم في الطيّار وجلست أنا في طيّار أحمد بن نصر ووافيت الزعفرانيّة ولقيت بها بجكم وصعدت إليه فحدّثته بالحديث واجتهدت في إصلاحه للبريدى وردّه إلى بغداد، فأبى فقال:
« لو لقيتني وأنا على درجة من دارى لما تهيّأ لي أن أعود فإنّها تكون هزيمة فكيف وقد سرت ووصلت إلى ههنا. » وانحدرت معه فقبض على أبي جعفر بن شيرزاد بواسط لأنّه كان سبب البريدي عنده وهو الذي أشار بوصلته.
إزالة اسم الوزارة عن البريدي وإيقاعه على سليمان بن الحسن
وأظهر بجكم صرف أبي عبد الله البريدي عن الوزارة وأزال اسمها عنه وأوقعه على أبي القاسم سليمان بن الحسن. فكان اسم الوزارة عليه وخلع عليه خلع الوزارة والأمور يدبّرها كاتب بجكم وهو ابن شيرزاد إلى أن قبض عليه.
فكانت مدّة وقوع اسم الوزارة على أبي عبد الله البريدي سنة واحدة وأربعة أشهر وأربعة عشر يوما.
وكان بجكم عند إخراج مضربه إلى الزعفرانية متوجّها إلى البريدي أحبّ أن يكتم خبر انحداره. وكان انحداره في حديدي فضبط الطرق ومنع من نفوذ كتاب لأحد لئلا يكتب بخبر انحداره.
ذكر اتفاق ظريق غريب
كان معه في الحديدى كاتب له على أمر داره وجرايات حاشيته وكان له أخ في خدمة البريدي فلمّا جلس بجكم في الحديدى سقط على صدر الحديدى طائر فصاده غلمان بجكم وجاءوا به إلى مولاهم فوجد على ذنبه كتابا فقرأ فإذا هو كتاب من كاتبه هذا إلى أخيه بخطّه يعرّفه فيه انحدار بجكم ومن أنفذ على الظهر من الجيش وسائر أسراره وعزائمه. فلمّا وقف عليه بجكم عجب واغتاظ وأحضر هذا الكاتب ورمى إليه بالكتاب فسقط في يده ولم يمكنه جحده لأنّه بخطّه المعروف فاعترف به فأمر به فرمى بالزوبينات بحضرته إلى أن قتله ورمى به في الماء وسار إلى واسط فوجد البريدي قد انحدر منها ولم يقف.
ابن رائق ينفذ ابنه ليقتل قصاصا
وفي ذي الحجّة من هذه السنة ورد الخبر بأنّ ابن رائق أوقع بأبي نصر ابن طغج أخي الأخشيد. فانهزم أصحاب أبي نصر ابن طغج واستؤسر وجوه قوّاده وقتل أبو نصر ابن طغج فأخذه ابن رائق وكفّنه وحنّطه وحمله في تابوت إلى أخيه الأخشيد وأنفذ معه ابنه مزاحم بن محمّد بن رائق وكتب إلى الأخشيد معه كتابا يعزّيه فيه بأخيه ويعتذر ممّا جرى وأنّه ما أراد قتله وأنّه قد أنفذ إليه ابنه ليقيده به إن أحبّ ذلك.
فتلقّى الأخشيد فعله ذلك بالجميل وخلع على أبي الفتح مزاحم وردّه إلى أبيه واصطلحا على أن يفرج ابن رائق للأخشيد عن الرملة ويكون باقى الشام في يد ابن رائق ويحمل إليه الأخشيد عن الرملة مائة وأربعين ألف دينار.
دخول الترجمان من الجبل منهزما
وفيها دخل أبو نصر محمّد بن ينال الترجمان من الجبل منهزما من الديلم واتصل خبر هزيمته ببجكم وهو بواسط فوجّه بمن ضربه في منزله بالمقارع وقيّده وحبسه مدّة ثم رضى عنه.
ودخلت سنة تسع وعشرين وثلاثمائة
قبض بجكم على كاتبه ابن شيرزاد
وفيها كان القبض من بجكم على كاتبه ابن شيرزاد واستكتب أبا عبد الله الكوفي فكانت مدّة كتابة ابن شيرزاد لبجكم وتدبيره الملك وقيامه مقام الوزراء تسعة عشر شهرا وثلاثة عشر يوما.
وحين أراد القبض عليه كاتب تكينك خليفته على يد مسرع بأن يحضر أبا القاسم الكلواذى وأصحاب الدواوين والعمّال والمهندسين ويتقدّم إليهم بأن يتواقفوا على أمر المصالح بالسواد وأن يعملوا عملا بما يحتاج إليه ناحية ناحية فإذا فرغ منه تسلّمه منهم وقبض على فلان وفلان - قوم أسماهم له من الكتّاب - فإذا حصلوا كتب على عدّة أطيار بخبر حصولهم.
فأحضرهم تكينك وناظرهم في دار بجكم على أمر المصالح. فلمّا فرغوا من ذلك وأرادوا الانصراف اعتقل من أسمى له منهم وفيهم أبو الحسن طازاذ بن عيسى ومحمّد بن الحسن بن شيرزاد والمعروف برهرمه وجماعة من الكتّاب والعمّال وكتب بخبر القبض عليهم. فلمّا عرف خبرهم وحصولهم في القبض قبض حينئذ على أبي جعفر ابن شيرزاد وزيره.
من دلائل دهاء بجكم
وممّا يستدلّ به على دهاء بجكم ما حكاه ثابت عن أبي عبد الله الكوفي قال:
قال بجكم بعد قبضه على أبي جعفر ابن شيرزاد: كان يقال لي إنّ أبا جعفر موسر كثير المال وكنت أظنّ أنّ أعداءه يكثرون عليه. فأردت أن أمتحن صحّة ما يقال فيه فقلت له يوما:
« قد أودعت الأرض مالا كثيرا وعملت على أن أودع الناس شيئا آخر ولست أثق بأحد ثقتي بك وأريد أن أودع عندك شيئا فهل تنشط لذلك. » فقال لي:
« وكم مبلغه؟ » فقلت: « مائة ألف دينار. » فقال لي مسرعا:
« نعم. » ولم يستكثرها ولا رأيت في وجهه إعظاما لها. فلمّا رأيت قوّة قلبه ونشاطه للأمر وأنّ المقدار لم يهله ولا عظم في نفسه علمت أنّ الذي قيل في يساره وكثرة ماله حقّ. فسلّمت إليه مائة ألف دينار وتركته مدّة طويلة ثم قلت له:
« قد احتجت إلى تلك الدنانير فينبغي أن تردّها. » فقال: « نعم. » وحمل بعد أيّام جزء منها ثم اقتضيته فحمل شيئا آخر ثم اقتضيته فحمل جزء آخر فأظهرت غضبا وقلت له: « دفعتها إليك جملة وتردّها تفاريق. » فارتاع لغضبي وصياحي عليه ودهش فخجل وقال:
« أنا أصدق الأمير ليس لي من أثق به في هذه الأحوال إلّا أختى وليس تطيق حمل الجميع ولا لها حيلة إلّا أن تحمله شيئا بعد شيء. » فسكتّ. وقلت: « يجوز ».
وحصّلت من كلامه أنّ الذي يجرى على يده أمر ودائعه هو أخته. فلمّا قبضت عليه وطالبته، أخذ يتماتن. فوجّهت إليه:
« لا تماتن، فإنّ أختك قد وقعت في يدي. » ولم تكن قد وقعت وإنّما أردت أن أرعبه. قال: فانحلّ وبلغ ما أردته.
موت الراضي بالله
وفيها في ليلة الجمعة للنصف من شهر ربيع الأوّل مات الراضي بالله وكان قد انكسف القمر كلّه وكان موته بالاستسقاء الزّقّى، واستتر كاتبه أبو الحسن سعيد بن عمرو بن سنجلا وانقضت أيّامه.
وكان رجلا أديبا شاعرا حسن البيان يحبّ محادثة الأدباء ومعاشرتهم ولا يفارق الجلساء وكان سمحا سخيّا واسع النفس.
ما قاله سنان بن ثابت لبجكم في علاج خلقه
وطمع بجكم في جماعة من ندمائه وظنّ أنّه ينتفع مع عجمته بآدابهم.
فلمّا نظر لم يجد من يفهّمه ما ينتفع به إلّا سنان بن ثابت. فإنّ سنانا كان ينادمه الراضي بالله.
قال سنان: دعاني بجكم ووصلني وأكرمنى ثم قال لي:
« أريد أن أعتمد عليك في تدبيري وأمور جسمي ومصالحي وفي أمر آخر هو أهمّ إليّ من أمر بدني وهو أمر أخلاقى. فقد وثقت بعقلك وفضلك وقد غمّنى غلبة الغضب والغيظ عليّ وافراطهما فيّ حتى أخرج إلى ما أندم عليه من ضرب وقتل. فأنا أسألك أن تثقف ما أعمله ثم تعالجنى ممّا تكرهه وإذا عرفت لي عيبا لم تحتشم أن تذكره لي ثم ترشدني إلى علاجه ليزول عني. » قال: فقلت له:
« السمع والطاعة، ولكن في العاجل اسمع مني جملة علاج ما أنكرته من نفسك إلى أن يجيء التفصيل.
« اعلم أيّها الأمير بأنّك قد أصبحت وليس فوق يدك يد لمخلوق، وأنّه لا يتهيّأ لأحد منعك ممّا تريد ولا أن يحول بينك وبين ما تهواه أيّ وقت أردته، وأنّك متى أردت شيئا بلغته في أيّ وقت شئت، لا يفوتك منه شيء.
« ثم اعلم أنّ الغيظ والغضب يحدث في الإنسان سكرا أشدّ من سكر الشراب المسكر بكثير. فكما أنّ الإنسان يعمل في وقت السكر من النبيذ ما يندم عليه وما لا يعقل به ولا يذكره إذا صحا، كذلك يحدث في حال السكر من الغضب بل أشدّ. فيجب كما يبتدأ بك الغضب وتحسّ بأنّه قد ابتدأ يغلبك ويسكرك وقبل أن يشتدّ ويقوى ويتفاقم ويخرج من يدك فضع في نفسك أن تؤخّر العقوبة على الذنوب وتتركها. تغبّ ليلة واثقا بأنّ ما تريد أن تفعله في الوقت لا يفوتك عمله في غد. وقد قيل: « من لم يخف فوتا حلم » فإنّك إذا فعلت ذلك وبتّ ليلتك وسكنت فلا بدّ لفورة الغضب من أن تبوخ وتسكن وتصحو من السكر الذي أحدثه لك الغضب. وقد قيل: « إنّ أصحّ ما يكون الرأي إذا استدبر الإنسان ليلته واستقبل نهاره ».
« فإذا صحوت من سكرك فتأمّل الأمر الذي أغضبك، فإن كان ممّا يجوز فيه العفو ويكفى فيه العتاب والتهديد أو التوبيخ أو العزل، فلا تتجاوز ذلك. فإنّ العفو أحسن بك وأقرب لك إلى الله عز وجل. وليس يظنّ بك المذنب ولا غيره العجز ولا تعذّر القدرة. وإن كان ممّا لا يحتمل العفو عاقبت حينئذ على قدر الذنب ولم تتجاوزه إلى ما يقبح ذكرك ويزيغ دينك ويمقت عليه نفسك وإنّما يشتدّ هذا عليك عند تكلّفه أوّل دفعة وثانية وثالثة، ثم يصير عادة فيسهل لك ثم تستلذّه إذا علمت أنّه فضيلة. » فاستحسن ذلك بجكم ووعد أنّه يفعله، وما زال ينبهه على شيء شيء حتى صلحت أخلاقه وكفّ عن القتل والعقوبات الغليظة واستحلى ما كان يشير به من استعمال العدل والإنصاف ورفع الجور والظلم وعمل به حتى قال:
« قد تبيّنت أن العدل أربح للسلطان بكثير وأنّه يحصّل له دنيا وآخرة وأنّ موادّ الظلم وإن كثرت وتعجّلت سريعة النفاد والفناء والانقطاع، وهو مع ذلك كأنّه لا يبارك فيها وتحدث حوادث يتحرّمها ثم يعود بخراب الدنيا وفساد الآخرة. »
فقلت له: « وبالضد، فإنّ موادّ العدل تنمى وتزيد وتدوم ويبارك فيها عند ابتداء العمل به. » وعمل بواسط وقت المجاعة دار ضيافة وببغداد بيمارسنا وعدل في أهل واسط وأحسن إلى أهلها،
إلّا أنّ مدّته لم تطل. فقتل عن قرب، ولله تدبير في أرضه وله أمر هو بالغه. خلافة المتقي لله أبي إسحاق إبراهيم بن المقتدر بالله
لمّا مات الراضي بالله بقي الأمر في الخلافة موقوفا انتظارا لقدوم أبي عبد الله الكوفي من واسط واحتيط على دار السلطان وانتظر أمر بجكم فيمن ينصب للخلافة فورد كتابه على أبي عبد الله الكوفي يأمر فيه: أن يجتمع مع الوزير الذي كان يزر للراضى بالله وهو أبو القاسم سليمان بن الحسن وكلّ من تقلّد الوزارة مع أصحاب الدواوين والقضاة والعدول والفقهاء والعلويين والعبّاسيين ووجوه البلد، وشاورهم فيمن ينصب للخلافة ممّن يرتضى مذاهبه وتحمد طرائقه. فمن وجدت فيه هذه الأحوال عقدت له الخلافة.
فلمّا اجتمعوا ذكر بعضهم إبراهيم بن المقتدر، فتفرّق الناس عن هذا ذلك اليوم من غير تقرير لأمر. فلمّا كان اليوم الثاني دفع كتاب بجكم إلى كاتب فقام وقرأه على الناس وذكر إبراهيم.
فقال محمّد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي:
« هذا الرجل من ولد المقتدر، فقل لنا هذا الرجل المذكور في الكتاب، يجب أن يكون من ولد المقتدر أو من غيرهم. » فقال أبو عبد الله الكوفي:
« من كانت فيه هذه الأوصاف نصب في الخلافة كائنا من كان. » فقال له:
« يحتاج أن يكون الخطاب في هذا سرّا. » فقام أبو عبد الله فدخل إلى بيت وأقبل يدخل إليه الناس اثنان اثنان ويقول لهما:
« قد وصف لنا إبراهيم بن المقتدر. فأيّ شيء تقولون؟ » فإذا سمعا ذلك لم يشكّا في أنّه شيء قد تقرّر وورد فيه أمر بجكم، فيقولون هو موضع لما أهلّ له، وكلاما في هذا المعنى. فلمّا استوفى كلام الجماعة تقدّم بحمله ليعقد له الأمر في دار بجكم ثم يحمل إلى دار السلطان.
وانحدر أبو عبد الله الكوفي وعرضت الألقاب على المتقي لله فاختار منها هذا اللقب، وأخذت البيعة على الناس وأنفذ الخلعة واللواء إلى بجكم مع أبي العبّاس أحمد بن عبد الله الإصبهاني إلى واسط، فانحدر بها وخلع عليه وأخذ البيعة عليه للمتقي لله.
وأطلق بجكم لأصحابه صلة البيعة نصف رزقه أو دون ذلك ولم يطلق للكتّاب ولا للنقباء وأشباههم شيئا. ووجّه بجكم قبل استخلاف المتّقى فحمل من دار السلطان فرسا كان استحسنه وآلات كان اشتهاها. وخلع المتقي لله على سلامة الطولونى وقلّده حجبته وأقرّ سليمان بن الحسن على وزارته وإنّما كان له من الوزارة الاسم فقط والتدبير إلى أبي عبد الله الكوفي.
ورود الخبر بدخول ابن محتاج إلى الري وقتله ما كان الديلمي وهزيمته لوشمكير
وفيها ورد الخبر بدخول أبي على ابن محتاج في جيش خراسان إلى الري وقتله ما كان الديلمي وهزيمته لوشمكير إلى طبرستان.
ذكر السبب في ذلك
كان ماكان مستقرّا بكرمان من قبل صاحب خراسان حتى بلغه قتل مرداويج فاجتمع عليه استئمان رجاله إلى عماد الدولة علي بن بويه ومجاورته إيّاه وطمعه في معاودة أعماله الأولى من جرجان وطبرستان.
فصار إلى خراسان واستعفى من ولاية كرمان وسأل ولاية جرجان. فوليها وسار إليها وفيها بلقاسم ابن بانجين من قبل وشمكير فقدّم ما كان كتابا إلى وشمكير يداريه فيه ويستنزله عن أعماله التي كانت في يده ويستعيده إلى حال المودّة والموادعة، وكان الإجماع قد وقع من الجيل والديلم أنّه لم ير فيهم أشجع ولا أنجد ولا أفرس من ماكان وأقرّ له بذلك كلّ شجاع مذكور وكلّ متقدّم مشهور.
فصادفت رسالته من وشمكير ضعف قلبه بقتل أخيه مرداويج وقرب عهده بالمصيبة وإشفاقه من صاحب خراسان ومن جهة عماد الدولة علي بن بويه.
فاستجاب له إلى النزول عن جرجان وكتب إلى صاحبه بلقسم ابن بانجين بتسليمها إليه. فلمّا مضت له مدّة استنزله ما كان أيضا عن سارية فنزل له أيضا عنها.
فتأكّدت الحال بينهما واستحكمت المودّة واستوحش صاحب خراسان من تضافرهما وآل الأمر إلى أن خلع ما كان طاعته وأسقط خطبته. فسار حينئذ أبو على ابن محتاج إلى جرجان لمواقعته في عسكر كثيف أمدّه به صاحب خراسان وكتب ما كان إلى وشمكير بالصورة واستنجده. فأنجده بعسكر قويّ ثم أتبعه أيضا بعسكر ثان مع شيرج بن ليلى وحاصر ابن محتاج ما كان واشتدّ به الحصار إلى أن أكل أصحابه لحوم الجمال والبغال.
فانتهز هذه الفرصة ركن الدولة الحسن بن بويه واغتنم شغل وشمكير بما كان فطمع في الريّ وكاتب أبا عليّ ابن محتاج صاحب جيش خراسان وأشار عليه بمناجزة القوم ووعده بالمعاونة وكذلك فعل عماد الدولة كاتبه وأشار عليه بالمناجزة ووعده بأن يسيّر أخاه إلى الريّ في عسكر قويّ.
وعرف وشمكير الخبر وكتب إلى ما كان بالصورة وأشار عليه بتسليم جرجان إلى الخراسانية وكتب إلى شيرج وإلى سائر عسكره بالانصراف ففعل ما كان ذلك وعاد الجيش بأجمعه إلى الريّ وحصل ما كان بسارية وتمكّن ابن محتاج من جرجان واتصلت المكاتبة بينه وبين عماد الدولة وركن الدولة واستحكمت المودّة بينهم واتّفقوا على حرب وشمكير حين اختلط عسكراهما وصارا عسكرا واحدا واشتملت عدّة العساكر على سبعة آلاف من الديلم والجيل سوى الأتراك والعرب وأظهرا من السلاح والجنن والآلات والدوابّ أمرا عظيما. فترافدا في التدبير لأنّ وشمكير كان منفردا بإطلاق النفقات والأموال وإقامة الأنزال والعلوفات وتفقّد القوّاد والرجال لأنّ الريّ وأعمالها كانت في يده.
فأمّا ما كان فإنّه تفرّد بمباشرة الحرب وترتّب منها في القلب. فسار ابن محتاج على طريق الدامغان حتى قرب منها وأقام الديلم والجبل مصافّها وبات الفريقان على أهبة لمباكرة الحرب والمناجزة وكان وشمكير ضرب عدّة خركاهات للمصافّ ونصب المطارد والأعلام وأحضر الطعام للناس وأجلس ما كان في الصدر يأكل ويطعم ويجلس من يرى ووشمكير قائم متردّد على رسمهم في ذلك. فكان ما كان يقول:
« يا با طاهر، لم تأكل معنا ثم تتوفّر على النظر بعد ذلك؟ » فيقول: « يا با منصور، نحن بازاء أمر قد قرب انفصاله. فإن كان لنا فسوف نأكل معا ونطعم وإن كان لغيرنا فسوف يأكل ويطعم. » وكانا يتعاملان معاملة النظراء ويتخاطبان بالكنى ويتساويان في جميع أحوالهما. فما استتمّوا طعامهم حتى ورد عليهم الخبر بأنّ ابن محتاج رحل عن موضعهم عادلا عن سمتهم إلى إسحاقاباذ ليجتمع معه العدد الذي أنفذه ركن الدولة، لأنّه كان سار على طريق قم وقاشان. فارتحلا جميعا في الوقت إلى هذه القرية، وأعاد المصافّ بها ووافى ابن محتاج وقد عبّى جيشه كراديس.
ذكر حيلة في الحرب تفرق بها الجيش المجتمعون ودخل بينهم الغدر فأزال تعبئتهم وهزمهم
تقدّم ابن محتاج إلى أصحابه أن يطرقوا القلب ويلحّوا عليه وكان فيه ما كان وجمرة العساكر وان يتطاردوا لهم ويستجرّوهم ثم وصّى الكراديس التي بإزاء الميمنة والميسرة أن يناوشوهم مناوشة خفيفة بمقدار ما يشغلهم عن أن يصيروا مددا لمن في القلب ولا يطلبوا المناجزة بل يقفوا بازائهم على هذا السبيل. ففعلوا ذلك وألحّوا على القلب ثم تطاردوا لهم كالمنهزمين فطمع ما كان وأصحابه الذين كانوا في القلب فيهم فاتّبعوهم وفارقوا مصافّهم وبعدوا عن ميمنتهم وميسرتهم وصار بينهم فضاء كثير.
فحينئذ أمر ابن محتاج الكراديس التي بإزاء الميمنة والميسرة أن يتركوا من بازائهم ويدخلوا في الفضاء الذي اتسع لهم وراء القلب وأمر الذين كانوا بإزاء الحرب أن يحملوا ويحقّقوا عليه مواجهين له. فانكسر الديلم وحصلوا بين الكراديس ولم يكن لهم مهرب فقتلوهم كما شاءوا.
وكان ما كان قد ترجّل وأبلى بلاء حسنا وظهرت منه آثار لم ير مثلها.
فوافاه سهم عائر وقع في جبينه فنفذ الخوذة والرأس حتى طلع من قفاه وسقط ميتا. وأفلت وشمكير وقوم من أصحاب الخيل إلى سارية وأسر الباقون وقتلوا بأجمعهم.
وملك ابن محتاج الريّ وأخذ رأس ما كان بخوذته والسهم فيه وحمل على هيئته وحالته إلى خراسان مع الأسارى ورؤوس القتلى وكانوا عددا جمّا يقال: إنّهم نحو ستة آلاف. ثم حمل بعد ذلك رأس ما كان إلى بغداد بعد مقتل بجكم. لأنّ بجكم ينتسب إلى ما كان ويزعم أنّه تربيته وقد كان أظهر حزنا وغمّا شديدا لمّا سمع بقتله وجلس للعزاء. فلمّا قتل بجكم ورد أبو الفضل العبّاس ابن شقيق المرسوم كان بالترسّل بين ولاة خراسان وبين السلطان ومعه رأس ما كان وفيه السهم وعليه الخوذة وذلك في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
ذكر غلطة وقعت من ابن محتاج في استنامته إلى جيش غريب حتى قتل خلق من أصحابه وانتهب سواده ونجا بنفسه
كان الحسن بن الفيروزان ابن عمّ ماكان وصنيعته وكان قريبا منه في الشجاعة. إلّا أنّه كان شرسا متهوّرا زعر الأخلاق. فلمّا قتل ما كان التمس منه وشمكير أن يدخل في طاعته وينحاز إليه فلم يفعل. ثم لم يقتصر على التثاقل عنه حتى أطلق لسانه فيه وقال: هو الذي أسلم ما كان إلى القتل وخذّله ونجا بنفسه. فأفسد ما بينه وبين وشمكير بهذا الضرب من الكلام والوقيعة فيه. فقصده وشمكير وهو يومئذ بسارية. فانصرف عن سارية وصار إلى ابن محتاج داخلا في طاعته ومستنهضا له على وشمكير. فقبله ابن محتاج وأحسن إليه وساعده على قصد وشمكير.
فلقيه بظاهر سارية واتصلت الحرب بينهما أيّاما إلى أن ورد الخبر على ابن محتاج بوفاة نصر بن أحمد صاحب خراسان. فصالح وشمكير وأخذ ابنا له يقال له: سالار، رهينة وواقفه على أمور تقررت بينهما وانصرف إلى جرجان وجذب الحسن بن الفيرزان معه وهو غير طيب النفس بما فعله وأراد منه أن يتمم الحرب ثم يستخلف الحسن ويمتدّ بعد ذلك إلى خراسان.
فلمّا لم يفعل ابن محتاج ذلك انجذب الحسن بن الفيرزان معه على هذا الحقد ودبّر أن يطلب غرّته في طريقه ويفتك به. فلمّا صارا إلى الحدّ بين أعمال جرجان وخراسان وثب الحسن على ابن محتاج وأوقع بعسكره ليقتله. فأفلت منه وقتل حاجبه وانتهب سواده واسترجع رهينة وشمكير أعنى ابنه سالار وعاد إلى جرجان فاستولى عليها وعلى أعمال الدامغان وسمنان والقلعة التي كان يعتصم بها.
وكان وشمكير صار إلى الريّ فملكها. فلمّا فعل الحسن بابن محتاج ما فعل عاد إلى مواصلة وشمكير وبدأه بالمجاملة وردّ عليه ابنه الذي كان رهينة عند ابن محتاج. وأراد بذلك أن يستظهر على الخراسانية به إن عاودوا حربه. فتسلّم وشمكير ابنه وحاجزه في الجواب ولم يصرّح له بما ينقض شرائط ابن محتاج عليه.
ثم إنّ ركن الدولة قصد الريّ وحارب وشمكير فانهزم وشمكير واستأمن أكثر رجاله إلى ركن الدولة وصار إلى طبرستان فاغتنم الحسن ابن الفيرزان ضعف وشمكير فسار إليه واستأمن إلى الحسن بقية أصحابه وانهزم وشمكير إلى خراسان على طريق جبل شهريار.
فلمّا حصل وشمكير بخراسان رأى الحسن بن الفيرزان أن يواصل أبا على ركن الدولة وينحاز. إليه فراسله ورغب في مواصلته. فأجابه إلى ذلك وتمّت المصاهرة بينهما بوالدة الأمير على ابن ركن الدولة، أعنى فخر الدولة وهي بنت الحسن بن الفيرزان.
حوادث حدثت في هذه السنة منها مقتل بجكم
وفي هذه السنة فرغ من مسجد براثا وجمّع فيه.
وفيها اشتدّ الغلاء ببغداد وبلغ الكرّ من الدقيق مائة وثلاثين دينارا وأكل الناس الحشيش وكثر الموت حتى كان يدفن في قبر واحد جماعة من غير غسل ولا صلاة وظهر من قوم ديانة وصدقة وتكفين ومن آخرين فجور وغصب وهم الأكثر. وفيها انبثق نهر الرّفيل ونهر بو فلم يقع عناية بتلافيهما حتى خربت بادوريا بهذين البثقين بضعة عشر سنة.
وفيها قتل بجكم.
ذكر سبب قتله
كان ورد جيش البريدي إلى المذار وأنفذ بجكم نوشتكين وتوزون في جيش للقائه فكانت بينهما وقعة عظيمة كانت أوّلا على أصحاب بجكم. فكتبا إلى بجكم يسألانه أن يلحق بهما فخرج بجكم من داره بواسط يوم الأربعاء عشرة خلت من رجب للمسير إلى المذار ليلحق عسكره وأصحابه. فورد كتاب توزون ونوشتكين بظفرهما وهزيمة جيش البريدي وأنّه قد استغنى عن انزعاجه فأنفذ بجكم بالكتاب إلى بغداد وكتب به كتاب هناك قرأ على المنابر.
وهمّ بجكم بالرجوع من حيث وصل إليه الكتاب بالخبر وكانت خزائنه قد سارت. فأشار عليه أبو زكريا السوسي بأن لا يرجع وقال له: « تمضى وتتصيّد. » فعمل على ذلك. فلمّا بلغ نهر جور عرف أنّ هناك قوما من الأكراد مياسير فشره إلى أموالهم وقصدهم متهاونا بهم في عدد يسير من غلمانه وعليه قباء طاق بلا جبّة. فهرب الأكراد من بين يديه وتفرّقوا ورمى واحدا منهم فأخطأ ورمى آخر فأخطأ واستدار من خلفه غلام من الأكراد وهو لا يعرفه فطعنه بالرمح في خاصرته فقتله وذلك بين الطيب والمذار يوم الأربعاء لتسع بقين من رجب. واضطرب عسكره جدّا ومضى ديلمه خاصة إلى البريدي وكانوا ألف وخمسمائة رجل فقبلهم وأضعف أرزاقهم في دفعة واحدة.
وكان بنو البريدي عملوا على الهرب وقد ضاقت عليهم البصرة لمراسلة بجكم أهلها بما سكّن نفوسهم فكانوا مجتمعين بمطارا. فلمّا بلغ بنى البريدي قتل بجكم فرّج عنهم ونفّس خناقهم وعاد أتراك بجكم إلى واسط وسار تكينك بهم إلى بغداد ونزلوا في النجمى وأظهروا طاعة المتقي لله وصار أحمد بن ميمون كاتب المتقي لله قديما هو المدبّر للأمور وصار أبو عبد الله الكوفي من قبله.
فكانت مدّة تقلّد أبي عبد الله الكوفي كتابة بجكم وتدبيره المملكة خمسة أشهر وثمانية عشر يوما ومدّة إمارة بجكم سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيّام.
ووجّه المتقى بجماعة من حجّابه فوكّلهم بدار بجكم ولم يتعرّض لشيء ممّا فيها حذرا من أن يرد خبر لبجكم يبطل الخبر الأوّل.
دفائن بجكم في البيوت والصحارى
فلمّا صحّ عنده قتله أحضر يكاق صاحب تكينك فأثبت المواضع التي فيها المال مدفونا. فسأل عن سبب معرفته بها فذكر أنّه كان يخرج من الخزانة ويستدلّ على أنّه لدفين، ثم يتّتبع الأثر سرّا. فلمّا عرف البيت الذي فيه الدفين والموضع المظنون فيه المال طلب له ثقة وضمّ إلى نجاح خادم المتقى، فاستخرج شيء كثير في قدور كبار منها عين ومنها ورق. فلمّا فرغ ممّا وجد بذل للحفّارين أن يأخذوا التراب باجرتهم فامتنعوا، فأطلق لهم ألفى درهم ثم تقدّم بغسل التراب فغسل وأخرج منه ستّة وثلاثون ألف درهم.
وكان بجكم قد دفن في الصحارى ولم يقتصر على ما دفنه في البيوت فكان الناس يتحدّثون أنّه إذا دفن في الصحراء شيئا ومعه من يعاونه قتله لئلّا يدلّ على ما يدفنه في وقت آخر فبلغ بجكم ما يقوله الناس فعجب منه.
فحكى سنان بن ثابت قال:
قال لي بجكم: فكّرت فيما دفنته في دارى من المال وقلت قد يجوز أن يحال بيني وبين الدار بحوادث تحدث فلا أصل إليها فيتلف مالي وروحي، إذ كان مثلي لا يجوز أن يعيش بغير مال فدفنت في الصحراء وعلمت أنّه لا يحال بيني وبين الصحراء.
فبلغني أنّ الناس يشنّعون عليّ بأنّى أقتل من يكون معي. ولا والله ما قتلت أحدا على هذه السبيل. وأنا أحدّثك كيف كنت أعمل: كنت إذا أردت الخروج للدفن أحضرت بغالا عليها صناديق فرّغ إلى دارى فاجعل في بعضها المال وأقفل عليها وأدخل من أريد أن يكون معي من الرجال إلى باقى الصناديق التي على ظهور البغال وأطبق عليهم وأقفل عليهم وأسيّر بالبغال، ثم آخذ أنا مقود القطار وأسير إلى حيث أريد وأردّ من يخدم البغال وأنفرد وحدي في وسط الصحراء، ثم افتح عن الرجال فيخرجون ولا يدرون أين هم من أرض الله، وأخرج المال فيدفن بحضرتى وأجعل لنفسي علامات، ثم أردّ الرجال إلى الصناديق وأطبقها عليهم وأقفلها وأقود البغال إلى حيث أريد، وأخرج الرجال فلا يدرون إلى أين مضوا ولا من أين رجعوا، واستغنى عن القتل.
واستوزر المتقي لله أبا الحسين أحمد بن محمّد بن ميمون وخلع عليه واستحلف أبا عبد الله الكوفي وطلب تكينك فاستتر.
وقدم الترجمان من واسط، فأقرّه المتقي لله على الشرطة ببغداد.
وفيها أصعد البريديون من البصرة بعد قتل بجكم.
كر الخبر عن إصعادهم وما آلت إليه أمورهم
لمّا قتل بجكم اختلف أهل عسكره. فأمّا الديلم فعقدوا الرئاسة لبلسوار ابن مالك بن مسافر الكنكرى، فهجم عليه الأتراك وقتلوه. فانحدر الديلم بأسرهم إلى البصرة مستأمنين إلى أبي عبد الله البريدي وكانوا ألفا وخمسمائة رجل مختارين منتجبين ليس فيهم حشو. فقوى البريدي بهم وعظمت شوكته واستظهر بهم على السلطان وانضاف عسكرهم إليهم فبلغوا سبعة آلاف رجل.
فأصعد البريديون من البصرة إلى واسط، فراسلهم المتقي لله وأمرهم ألّا يصعدوا وأن يقيموا بواسط فأرسلوا:
« إنّا محتاجون إلى مال الرجال فانفذ إلينا ما نرضيهم به ونحن نقيم. » فوجّه المتقي لله أبا جعفر بن شيرزاد بعد أن ردّ عليه ضيعته مع عبد الله بن يونس صاحب بيت المال وانحدر في جملته تكينك سرّا من المتقي لله.
وقال الأتراك البجكمية والجنكاتى الذي كان استأمن من جهة البريدي للمتقي لله:
« نحن نقاتل بنى البريدي إن جاءوا، فأطلق لنا مالا وانصب لنا رئيسا. » فأنفق فيهم وفي رجال الحضرة القدماء أربعمائة ألف دينار من المال الذي وجد لبجكم وجعل الرئيس عليهم سلامة الطولونى الحاجب وبرزوا مع المتقي لله إلى نهر ديالى.
وعاد عبد الله بن يونس بجواب الرسالة من البريديين يلتمسون المال.
فحمل إليهم معه من مال بجكم أيضا مائة وخمسين ألف دينار فأخذها وقال:
« أنا أحتاج إلى خمسمائة ألف دينار للديلم. فإن حملت إليّ وإلّا فإنّ الديلم لا يمهلونى، وعلى كلّ حال أنا سائر، فإن تلقّانى المال انصرفت، وإلّا دخلت الحضرة. » فقال المتقي لله لمّا أدّيت رسالته:
« أنا قد أنفقت في الأتراك أربعمائة وخمسين ألف دينار وفي غيرهم جملة فمن أين أعطيه ما طلب؟ دعه يرد الحضرة ويعمل ما شاء، فانّى أرجو أن أكفى أمره. » وسار أبو عبد الله البريدي من واسط نحو الحضرة. فلمّا قرب منها اضطرب الأتراك البجكمية وقلعوا خيمهم واستأمن بعضهم إلى البريدي وسار بعضهم إلى الجنكاتى إلى الموصل ودخل سلامة بغداد واستتر أبو عبد الله الكوفي وسلامة الحاجب ومحمّد بن ينال الترجمان، وتقلّد الشرطة مكان الترجمان أحمد بن خاقان، وتأسّف الوزير أبو الحسين على أربعمائة ألف دينار ذهبت ضياعا. ورهب الناس البريدي رهبة عظيمة لعسفه وتهوّره وطمعه، فهمّ أرباب النعم بالانتقال.
فتحدّث بعض المختصّين بأبي الحسن عليّ بن عيسى قال:
كنت بين يديه أنا وأولاده وأخوه وخواصّه في تلك الأيّام ونحن نتحدّث بأمر البريدي وموافاته الحضرة ونتجارى جرأته وإقدامه وقلّة اكتراثه وأنّه ينعل الناس بنعال الدوابّ وأشارت الجماعة عليه بألّا يقيم ببغداد وأن يخرج هو وعياله إلى الموصل إلى أبي محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وفزّعناه وهوّلنا عليه وهو لا يصغى إلى رأينا، فلمّا أكثرنا عليه ترجّح رأيه. ثم أطلق لي مائتي دينار على أن أبكّر وأكترى له بها زواريق ليصعد هو فيها وعياله إلى الموصل. فباكرنى رسوله مع السحر يأمرنى بالمصير إليه وجئت وسألنى فعرّفته أنّى ما مكّنت من امتثال أمره بمباكرة رسوله واستدعائه إيّاى.
فقال:
« ويحك لفكّرت البارحة فيما أشرتم به فوجدته خارجا عن الصواب مفسدا للدين. أيهرب مخلوق إلى مخلوق؟ اصرف تلك إلى وجوه الصدقة فإني مقيم. » فرددتها إلى خزائنه وأقام. فلمّا قرب البريدي انحدر إليه وتلقّاه فأكرمه أبو عبد الله غاية الإكرام ووفّاه حقّه وأعظمه ومنعه من أن يخرج من طيّاره وانتقل هو إليه وشكر برّه وخاطبه بنهاية الإكرام والتعظيم.
ودخل أبو عبد الله البريدي بغداد ومعه أخوه أبو الحسين وابنه أبو القاسم وأبو جعفر ابن شيرزاد يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان. فنزلوا البستان الشفيعى وتلقّاه الوزير أبو الحسين ابن ميمون والكتّاب والعمّال والقضاة والوجوه وكان معه من الشذاءات والطيارات والحديديات والزبازب ما لا يحصى كثرة. فوجّه المتقى إليه يعرّفه أنسه بقربه وحمل له الطعام والشراب والألطاف عدّة ليال وكان يخدم في ذلك كلّه خدمة الخلافة. وظهر محمّد بن ينال الترجمان وكان الناس يخاطبون أبا عبد الله البريدي بالوزارة ويخاطبون أبا الحسين ابن ميمون أيضا بالوزارة ويصير أبو الحسين إليه بسيف ومنطقة وقباء ويخاطب كلّ واحد منهما صاحبه بالوزارة ثم لبس أبو الحسين الدرّاعة وأزال عن نفسه اسم الوزارة بمواطأة الخليفة وذلك لستّ خلون من شهر رمضان فكانت مدّته فيها ثلاثة وثلاثين يوما وتفرّد أبو عبد الله البريدي باسم الوزارة.
فلمّا كان يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان حضر أبو الحسين ابن ميمون ومعه ابنه أبو الفضل مجلس الوزير أبي عبد الله وكان الوزير قد واطأ القوّاد إذا حضر أبو الحسين مجلسه أن يجتمعوا ويكلّموه ويتوثبوا عليه ويتهددوه بالقتل ويقولوا أنّه يضرّب علينا الخليفة ويفسد علينا رأيه.
ففعل الديلم ذلك في هذا اليوم. فما زال الوزير يسكّنهم ويعرّفهم كذب ما بلغهم عنه، ثم قال لأبي الحسين وابنه:
« قوما ادخلا الرواق. » يوهمهما أنّه يريد أن يخلّصهما من القتل. فدخلا الرواق ووكّل بهما، وانصرف القوّاد وحصلا في قبضه. ثم قال لهما بعد أيّام:
« يا أبا الحسين قد قلدتك الإشراف على واسط وأجريت لك ألف دينار في كل شهر، فامض إلى عملك مع ابنك. » فحملا إلى واسط ومنها إلى البصرة. ولمّا قبض عليه استكتب المتقي لله على خاص أمره أبا العبّاس أحمد ابن عبد الله الإصبهاني واعتلّ أبو الحسين بعد مدّة بالبصرة ومات بها.
ولم يلق الوزير أبو عبد الله طول مقامه ببغداد المتقي لله ولا دخل دار السلطان وذهب إليه الأمير أبو منصور ابن المتقي لله وهو في النجمى ليسلّم عليه فلبس أبو عبد الله البريدي قباء أسود وعمامة سوداء وتلقّاه في أحسن زيّ وأوفر عدّة ونثر عليه دنانير ودراهم. وراسل الوزير أبو عبد الله البريدي المتقي لله على يد القاضي أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخرقى وأبي العبّاس الاصبهاني يطالبه بحمل مال، فحمل إليه مائة وخمسين ألف دينار. فأخذها وراسله بأنّه لا بدّ من خمسمائة ألف دينار.
فالتوى المتقي لله فقال للقاضي:
« انصحه وقل له: أما سمعت خبر المعتز بالله والمهتدي بالله والمتوكّل على الله؟ والله لئن خلّيتك والأولياء لتطلبنّ نفسك فلا تجدها وأنت أبصر.
إنّما الديلم وافوا لأجل المال الذي أخذته لا إلى بغداد وعندهم أنّهم أحق به منك ولا يعرفون البيعة ولا يمين لك في رقابهم. » وكان الجواب عن هذه الرسالة الإنعام، وحمل إليه خمسمائة ألف دينار.
فاستوفاها عن آخرها في سلخ رمضان ووهب للقاضي الخرقى منها خمسة آلاف دينار. ولمّا حصلت الأموال عند البريديين انصرفت أطماع الجند كلّهم. إليه وكان البريدي يبعث الجند على طلب الأموال من الخليفة ويحملهم على الشغب. فلمّا استصفى مال السلطان رجعت المكيدة عليه وتشغب الجند عليه. وكان الديلم قد اجتمعوا يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان فرأسوا على أنفسهم كورنكيج بن الفاراضى الديلمي فرأس الأتراك على أنفسهم تكينك غلام بجكم وانحاز الديلم بأجمعهم إلى دار السلطان وأحرقوا دار أبي الحسين البريدي التي كان ينزلها.
ونفر الجيش عن أبي عبد الله البريدي وصار تكينك إلى الديلم وتضافروا وكان سبب ذلك أنّ تكينك لم يكن كبيرا في نفوس الأتراك. فأرسل إليه كورنكيج وخدعه وقال له:
« إن تفرّد كلّ واحد منّا عن صاحبه ضعف، وأرى أن نجتمع وتصير أيدينا واحدة. » فانخدع له وصار إليه فاجتمعوا فلمّا تمكّن منه عاجله بالقبض عليه إلّا أنّه استعان به في العاجل لمّا اجتمعوا وواقفه على قصد البريدي ونهب ما حصل عنده. فاتّفقوا على ذلك وقصدوا بأجمعهم النجمى وعاونهم العامّة فقطع الوزير أبو عبد الله الجسر ووقعت الحرب في الماء ووثبت العامّة. في الجانب الغربي بأسباب أبي عبد الله البريدي وقتل نعجة القرمطي.
فهرب الوزير أبو عبد الله البريدي وأخوه وابنه وانحدروا إلى واسط في الماء ونهبت داره في النجمى ودور قوّاده ونهب بعض المال الذي كان حمله إليه المتقى في ذلك اليوم. لأنّ هربه كان يوم الاثنين سلخ رمضان وآخر ما حمل إليه من بقيّة المال في ذلك اليوم. واستتر أبو جعفر ابن شيرزاد ونهبت داره وظهر سلامة الطولونى وبدر الخرشنى. فكانت مدّة وقوع اسم الوزارة عليه أربعة وعشرين يوما. ولمّا هرب البريدي حصلت الإمارة لكورنكيج يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شوّال.
ذكر إمارة كورنكيج
فلمّا كان يوم الخميس لثلاث خلون منه لقي كورنكيج المتقي لله فقلّده إمارة الأمراء وعقد له لواء وخلع عليه. وكان يكتب له رجل من أهل إصبهان يعرف بأبي الفرج ابن عبد الرحمن واستدعى المتقي لله أبا الحسن عليّ بن عيسى وأخاه عبد الرحمن فدبّر الأمر عبد الرحمن من غير تسمية بوزارة.
وقبض الأمير أبو شجاع كورنكيج على تكينك يوم السبت لخمس خلون من شوّال وغرّقه ليلا.
وفي يوم الجمعة اجتمعت العامّة في الجامع من دار السلطان وضجّوا وتظلّموا من الديلم ونزولهم في دورهم بغير أجرة وتعدّيهم عليهم في معاملاتهم. فلم يقع إنكار لذلك. فمنعت العامّة الإمام من الصلاة وكسرت المنبر وشغب الجند. فمنعهم الديلم من ذلك فقتل بين الفريقين جماعة.
واستوزر أبو إسحاق محمّد بن أحمد الإسكافي المعروف بالقراريطي للمتقي لله فكانت مدّة نظر عليّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن تسعة أيام.
ذكر السبب في وزارة القراريطي
حكى أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي قال: كنت بحضرة كورنكيج مع كاتبه أبي الفرج وفي مجلسه عليّ بن عيسى وعبد الرحمن أخوه والقراريطي فطالب كورنكيج أبا الحسن عليّ بن عيسى بالمال وعرّفه حاجته إليه لإعطاء الرجال فبلّح هو وأخوه وذكر أنّ المال قد استنظف من النواحي وأنّه لا وجه له. قال: فقال القراريطي ونحن في المجلس فيما بيني وبينه:
« إن ردّ الأمر إليّ أقمت به واستخرجت ما يدفع إلى الرجال ويفضل بعده جملة وافرة. » فاجتمعت مع أبي الفرج كاتب كورنكيج وعرّفته ما خاطبني به. فالتمس أن يصير إليه في خلوة ليسمع كلامه. فأحضرته في غد فأعاد عليه ما قاله لي وأراه وجوها لجملة من المال فذهب إلى صاحبه كورنكيج فعرّفه أن عليّ بن عيسى وأخاه قد بلّحا وأنّ القراريطي قد حضر وذكر أنّه يقوم بالأمر ويزيح علل الرجال حتى لا يقع إخلال بشيء يحتاج إليه. فاستروح كورنكيج إلى ذلك وأمره بإحضاره ليلا فأحضره وخلا به وبكاتبه وجعله على ثقة من القيام بكلّ ما يحتاج إليه ولم يبرح حتى انعقد له الأمر ووقّف المتقي لله عليه.
وأخرج إصبهان الديلمي إلى واسط من قبل الأمير أبي شجاع كورنكيج لمحاربة البريدي وكان أبو يوسف قد أصعد من البصرة إلى واسط.
فلمّا سمعوا بانحدار إصبهان الديلمي انحدر البريديّون إلى البصرة وظهر ابن سنجلا وسلفه علي بن يعقوب من استتارهما وصارا إلى دار الوزير أبي إسحاق القراريطي ليسلّما عليه. فقبض عليهما من داره قبل أن يصلا إليه وحملهما إلى دار السلطان وكتب فيهما رقعة إلى المتقي لله وأمر بحبسهما ونالهما مكروه غليظ بالضرب والتعليق وصودرا على مائة وخمسين ألف دينار.
وفي هذه السنة سار محمّد بن رائق من الشام إلى مدينة السلام لمّا بلغه قتل بجكم.
ذكر الخبر عن مسير ابن رائق من الشام ودخوله بغداد وما آل إليه أمره
كان الأتراك البجكمية مثل توزون وخجخج ونوشتكين وصيغون وكبارهم لمّا انصرفوا من بغداد بعد قتل بجكم وإصعاد البريدي صاروا إلى الموصل.
فحاد عنهم أبو محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وراسلوه في إطلاق نفقاتهم فأطلق لهم ربع رزقة، فتقدّموا إلى ابن رائق بالشام فصحّ عنده قتل بجكم بمصير الأتراك إليه، وكتب إليه المتقى يخبره بقتل بجكم ويخاطبه بخطاب جميل ويستدعيه إلى الحضرة فسار من دمشق. فلمّا قرب من الموصل كتب كورنكيج إلى إصبهان الديلمي بأن يصعد من واسط فأصعد ودخل بغداد وخرج لؤلؤ إلى واسط متقلّدا لها ولم يتمّ أمره ورجع من الطريق. ولمّا وصل ابن رائق إلى الموصل حاد عنه أبو محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وجرت بينهما مراسلة تقرّر فيها أن يحمل أبو محمّد إلى ابن رائق مائة ألف دينار. فأخذها وانحدر إلى بغداد وعاد أبو محمّد بن حمدان إلى الموصل.
ولمّا كان يوم الأحد لخمس بقين من ذي القعدة قبض كورنكيج على القراريطي. فكانت مدّة وزارته ثلاثة وأربعين يوما وقلّد الوزارة أبا جعفر محمّد بن القاسم الكرخي ولقي المتقي لله في هذا اليوم وخلع عليه.
وورد الخبر بدخول بنى البريدي واسطا لمّا انصرف عنها إصبهان الديلمي وخطبوا بواسط والبصرة لابن رائق وكتبوا اسمه على أعلامهم.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)