الشهيد فريز فياض دعبوس
farizdabos.jpg
(1945-1973)
الموقع الجولان
للزمن في الجولان المحتل توقيت أخر، فالسنون هي دهر ثقيل الخطوات، والذاكرة مضيئة ومشرقة مسكونة بالحنين والشغف إلى الماضي تحمل شذى الحرية والكرامة اللتين نكاد نفقدهما في زمن طال فيه انتظار الأمل بالحرية واستعادة دفء الإحساس في لقاء حبيب أو وداع حبيب هجره الزمان، لكن ما زالت تسكنه رائحة جذور المكان المعبقة بصور من الذكريات والأحلام،والأوجاع الدفينة التي تسكن ثنايا الصدور التي ما زالت مفتوحة تنتظر مداوتها.
فريز فياض دعبوس ابن قرية عين قنية في الجولان السوري، غادر في أواسط سنوات الستينيات قبل العدوان الإسرائيلي على الجولان في حزيران العام 1967،لكسب قوته وقوت إخوته وأهله في مدينة القنيطرة، فعمل نجارا في إحدى الورش لفترة قصيرة، ثم التحق في صفوف القوات المسلحة السورية، كمتطوع في سلاح البحرية السورية،بعد أن عاد إلى قريته ليستأذن والده ووالدته وينقش صورته الاخيره في ذاكرة وعيون أشقائه الصغار.ودخل الكلية الحربية البحرية في مدينة اللاذقية،ثم وقع عليه الاختيار للسفر إلى الاتحاد السوفياتي في بعثة عسكرية للتدرب على سلاح الطوربيدات ، حيث أنهى دورته بتفوق وامتياز بعد عام ونصف العام برتبة عريف، ليعود إلى قاعدته العسكرية في الساحل السوري شمالي مدينة اللاذقية في منطقة تعرف باسم " المينا البيضا" قرابة الحدود التركية السورية. وعلى بعد 300-400 متر كان ابن بلدته المجند أيوب أبو سعدة من قرية مسعدة، يؤدي خدمته العسكرية في سلاح الحماية" قسم مضادات الطائرات الأرضية" في سلاح المشاة حيث اعتادا بعد انتهاء تدريباتهما الشاقة على الالتقاء في الغرفة التي سكنها الشهيد فريز في منطقة " الطابيات" في ساحة المدينة التي عرفت باسم " ساحة الشيخ ظاهر"، حيث امضيا الليالي سويه يتبادلون أوجاع الحنين والشوق إلى بلديهما في الجولان التي احتلته إسرائيل بعد حزيران 1967. يتقاسما القلق والهم والشوق ولقمة العيش الصعبة التي رافقت فترة ما بعد مرحلة " النكسة الحزيرانية" ولم يكن عزاء في همهما سوى كلمات ضابط سوري شارك في الحرب، كان رفيقا لهم في غربتهم وخدمتهم، أنهكته الهزيمة وأتعبته صور النازحين والجنود أثناء الانسحاب " لسنا أول دولة تصاب بالهزيمة،سنداوي تلك الجراح المريرة التي تسكن صدوركما، وتعودان إلى بلديكما ونعيد ما فقدناه من كرامة وارض وأهل ما زالوا هناك خلف خطوط العدو."
بين واقع الهزيمة ومرارة الانكسار استطاع الشهيد الخالد فريز دعبوس أن يثبت كفاءته العالية في سلاح البحرية، فعين قائدا لقسم " المواتير" في السفينة الحربية السورية التي كان لها شرف التصدي في أول أيام حرب تشرين عام 1973، للطائرات الحربية الإسرائيلية التي قصفت النقاط الإستراتيجية في سوريا والمطارات العسكرية والمدنية وكافة المنشأت السورية الممتدة على الساحل السوري، ومركز قيادة سلاح الطيران السوري ومبنى وزارة الدفاع ومعامل تكرير النفط والجسور وصهاريج الوقود، ومعظم محطات توليد الطاقة الكهربائية، إضافة إلى مبنى التلفزيون، وذلك بعد أن استطاعت قوات المغاوير السورية" الصاعقة " تحرير جبل الشيخ بأكمله واسر أفراد الحامية الإسرائيلية التي كانت متمركزة داخله، وتقدمت خمسة فرق مشاة عسكرية سورية إلى الجبهة واستطاعت تحرير القطاع الأوسط والجنوبي من الجولان والتي ضمت 1500 دبابة T55 وT62 و1000 مدفع في غضون أربع وعشرين ساعة، في هذه الأثناء كان اللواء المدرع السوري90 يتقدم منتصرا في عمق الجولان حتى جسر بنات النبي يعقوب والشاطئ الشرقي من بحيرة طبريا.
█║S│█│Y║▌║R│║█
في السادس من تشرين شهد الساحل السوري أول معركة في التاريخ بين طوربيدات الصواريخ السورية (صواريخ بحر بحر)والطائرات والسفن والزوارق الحربية الإسرائيلية، وقد وصفت هذه المعركة في انها أول معركة تستخدم فيها الوسائل الالكترونية، ووسائل الخداع البصري، فالبحرية الإسرائيلية التي اعتمدت الأسلحة الأمريكية المتطورة والذكية وضعت أولوياتها الحربية، تدمير القدرات البحرية السورية، التي كانت مجهزة ومسلحة بأحدث الأسلحة البحرية السوفيتية،8 زوارق صواريخ (6 كومار.و2 اوسا) و17 زورق طوربيد، و3 زوارق دورية، و4 كاسحات الغام ، وعدة سفن انزال صغيرة .حيث قامت بتطبيق تكتيك تجعل فيه القوات السورية تطلق الصواريخ من مسافات بعيدة مع استخدام إسرائيل الإجراءات العسكرية المضادة للصاروخ بواسطة الرادارات والأقمار الصناعية، حتى نفاذ الصواريخ السورية،وبعدها أغار الطيران الإسرائيلي على السفن والقطع والزوارق السورية على بعد 30 كلم غربي الساحل السوري في منطقة رأس البسيط، وقد وصف شهود عيان إن تلك المعركة استمرت ساعات طويلة، وكانت شديدة القسوة. استطاعت البحرية السورية من إسقاط طائرات إسرائيلية وإغراق العديد من الزوارق والقطع البحرية الإسرائيلية بفضل تجهيزاتها المتطورة، وإرادة فرسان البحرية السورية، وأسفرت تلك المعركة عن تدمير ثلاثة سفن صواريخ ، وقارب مراقبة وكاسحة ألغام سورية، وقد كان من ضمنها القارب الحربي الذي كان على متنه الشهيد الخالد فريز دعبوس الذي استطاع من موقعه على عمق 5-8 أمتار في قلب السفينة من تلقى إحداثيات القطع الإسرائيلية من قسم الرادار والرصد على متن السفينة وإطلاق صواريخ الطوربيد عليها وقبل أن يخترق صاروخ إسرائيلي القسم السفلى من السفينة الحربية السورية" قسم المواتير الذي كان يشرف عليه" استطاع إطلاق أكثر من صاروخ أصاب زورقا حربيا إسرائيليا، شوهد وهو يغوص في قاع البحر.
█║S│█│Y║▌║R│║█
قبل الحرب أفصح الشهيد لرفيقه أيوب أبو سعدة، عن أمنيته قائلا" إن جاءني الموت، فإنني أرحب به كثيرا فقط حين أكون في البحر، لأبقى في أعماقه، لا أريد قبرا وشاهدا ليبكيني من أعزُهم وأحبُهم، البحر هو عالمي الكبير، أصبحت جزءاً منه كما هو جزء مني"
وكما كانت أمنيته، لم يبق مكان للشهيد يحمل اسمه وتاريخ ولادته أو رحيله، يحاصره المكان والزمان هناك في عمق البحر قبالة شواطئ اللاذقية المدينة التي أحب شوارعها وأجواءها، غاص في ظلمة البحر حتى نهاية الأزمنة، لكنه لم يهجر تلك العيون التي ما زالت تحتفظ في اسم له وهوية وعنوان، رغم أن تلك العيون في عين قنية وجرمانا تدرك أن الأوراق التي تسقط عن أغصانها لن تعود إليها ثانية، تاركة لأصداء الأصوات التي غطت الساحل السوري ومركز القيادة الحربية ان توقظ الأسئلة الداكنة التخوم في قلب ورأس وأمنيات طفلته الوحيدة " حنان" التي ولدت بعد ستة أشهر من استشهاد والدها الذي لم تعرفه يوما، ولم تستطع والدتها أن تعلمها كيفية نطق كلمة" أبي" .
ولد الشهيد الخالد فريز فياض دعبوس في قرية عين قنية في العام 1945، وحائز على شهادة المرحلة الابتدائية،بتفوق وامتياز، عمل بعدها في مساعدة ذويه في كسب لقمة العيش الكريمة، في الزراعة وفلاحة الأراضي في بانياس وعين قنية وجباثا، ليعيل مع والده خمسة أشقاء وشقيقتين، بعد أن غادر أخويه محمد فياض دعبوس وفريد دعبوس بلدتهم لتأدية الخدمة العسكرية حيث خدم أخوه محمد في سلاح الهندسة العسكرية في عدوان حزيران عام 1967،أما شقيقه فريد فقد انضم إلى الجيش وعمل سائق سيارة عسكرية.
وبقيت كل عائلته في قرية عين قنية تعيش بصمتها طويلا، صمتا هو أعمق من كل الكلمات، وأعمق من الأحزان والدموع، وأعمق من تلك الهاوية التي يرقد فيها شقيقهم الأكبر فريز، الذي بقى في عداد المفقودين طيلة فترة ستة أشهر، حتى تم الإعلان عنه رسميا انه شهيد سلاح البحرية السورية التزاما بالقانون البحري الدولي الخاص بالمفقودين أثناء المعارك البحرية، فيما زوجته السيدة" الهام المغربي/نخلة"،التي تزوجته قبل أشهر من بدء الحرب، وهي لم تزل إبنة السادسة عشرة من عمرها،كانت تنتظر عودته ليحتضن ابنته التي اختار لها اسما قبل ولادتها،وأوصى لها هدية كان قد ادخر ثمنها هي عبارة عن قلادة لسمكة البحر،ما زالت تتدلى فوق عنقها تلامس فيه وجه وصوت وصدر والدها الذي لم تعرفه يوما.
انتهت الحرب رسميا، ولم يعد العريف فريز دعبوس إلى زوجته الحامل في جرمانا، كما لم يرسل خبرا أو رسالة اطمئنان لأخوية أو عائلته في الجزء المحتل من الجولان، بعد مضى اثني وعشرين يوما من الحرب،ابتدأ من نجا من الحرب من العسكريين بالعودة إلى زيارة عائلاتهم وذويهم، لكن فريز لم يعد، ورغم اعتياد زوجته على تأخره وغيابه في سلاح البحرية الذي أحبه جدا،إلا أن شكوكهما كانت تتجه إلى إمكانية استشهاده،حيث تعززت تلك الشهود بعد أن أرسل قائد المنطقة الساحلية اللواء المرحوم نورالدين كنج أبو صالح في طلب احد أفراد عائلته ليسافر من جرمانا إلى اللاذقية، حيث وصلت زوجته وزوج أختها سامي المرعي إلى منزل اللواء الذي اخبرهم أن العريف فريز دعبوس في عداد المفقودين، ولم تجد فرق البحث والإنقاذ جثته.
بين الأمل في عودته الذي طغى على إخوته ووالده في عين قنية بإمكانية أن يكون أسيرا في إسرائيل والبحث في قوائم الصليب الأحمر الدولي عن أسماء الأسرى والناجيين من الحرب وبين اليقين الذي شهد به رفاقه في البحرية، أقيم للشهيد بيت عزاء في مدينة جرمانا وقريته عين قنيه،دون جثمان له تبكيه زوجته، ودون قبر أو شاهد تزوره ابنته" حنان" فيما بعد
حنان التي ما زالت تدخل غرفتها خلسة، تحدق في صورة والدها اليتيمة ،تحسبا من رؤية ابنتيها وزوجها لدموع شوقها التي لم تنضب بعد إليه،تقول: "أخاطبه دوما..هذه القلادة التي لم تفارقني يوما عليها صورته وقلادة سمكة البحر التي تركها لي،أجمل أحلامي حين أكون مرتمية على صدره يداعب خصلات شعري رغم إنني لم اعرفه أبدا، إلا من خلال حكايا وقصص والدتي وأقربائي".
ولدت وترعرت حنان في بيت جدها في جرمانا،وأنهت دراستها في معهد التمريض وعملت رئيسة الممرضات في شعبة الأمراض الداخلية في مستشفى ابن النفيس في دمشق،فيما والدتها تزوجت حين بلغت "حنان" السابعة عشرة من عمرها، أما شقيقه مجيد فيحاول التمسك في تلابيب ذاكرته عن أخر صورة مطبوعة في مخيلته عن شقيقه الأكبر الذي ذهب ولم يعد.
لقد كرمت قيادة الجيش والحكومة السورية الشهيد فريز فياض دعبوس، بإطلاق اسمه على مدرسة في منطقة " الطبالة" على طريق دمشق جرمانا، ومنحت الدولة ابنته كافة الاستحقاقات الخاصة بأبناء وبنات الشهداء ..
█║S│█│Y║▌║R│║█
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)