تمهيدكانت الدولة العثمانية في سنين ضعفها تعاني من تخلف حاد في أنواع شتى من حياتها ليس هذا مكان بسطها ،هذا التخلف قادها إلى أن تتوسع في سياسة الإبتعاث للشبان العثمانيين إلى أوروبا والتي كانت قد انتعشت في مجال العلوم التجريبية والتنظيمية وتطورت فيه تطوراً أخاذاً وملحوظاً،وتم هذا بالفعل وبدأت الدولة سياسة الإبتعاث هذه ،ولكن هؤلاء الشبان قد عادوا غير عثمانيين وإنما عادوا أوربيين بزي عثماني ،بل وصاروا فرنجة أكثر من الفرنجة ذاتهم ،ومن خلال هؤلاء المبتعثين بدأت الدولة العثمانية طريقاً جديداً اصطلح على تسميته تاريخياً بــ (الإصلاحات) وذاك تلبيةً لضغوط خارجية كانت الدولة العثمانية تعاني منها بين الفينة والأخرى !!
بدأ مشوار( الإصلاحات) في عهد السلطان عبد المجيد الأول سنة 1255 ،ولكنه إصلاح كان على طريقة (حتى لو دخلوا جحر ضب) .فالنمط الإصلاحي تفصيله أوروبي ،وخياطته كانت أوروبية بأيد عثمانية علمانية .
ولنشاهد سوياً هذا الطريق الإصلاحي والقادم من الضغط الأوروبي على الدولة العثمانية، والمعبد بأيد عملائها العثمانيين اللبراليين، ولننظر لأدواته وآلياته الإصلاحية ( العظيمة) والتي أدت في النهاية إلى سقوط الدولة نهائياً !!
1/الإصلاحات الداخلية
نعم كانت ( الإصلاحات) من أهم أسباب السقوط السريع للدولة العثمانية لأنها جاءت عن طريق حفنة من العلمانيين المنافقين والذين جادة إصلاحهم معروف وصفها (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ،ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون )
وإليك عزيزي القارئ هذا النص الذي ذكره المؤرخ لويس برنا رد صاحب كتاب: (the emergence of madern turkey) حيث قال ما نصه: ( وهكذا فإن الإصلاح على المبادئ الأوروبية الحديثة ،كان من العوامل الفعالة التي ساعدت على هلاك الدولة وانحلالها ....) ويقول: ( وكان في رأي الكثيرين من المؤرخين أن السبب الحقيقي لزوال الدولة ،هو الإصلاح على النمط الأوروبي ) ا.هـ
فهل بعد هذه الشهادة والتي هي من خير أنواع الشهادات- شهادة الأعداء- من محيص ؟! نعم إن عدوك لا يعقل أنه يريد لك خيراً وإن قاسمك أنه لك من الناصحين !!
إن الإصلاح الحقيقي هو الإصلاح النابع من الذات ( وأصلحوا ذات بينكم) ،وليس بـ(الإصلاح ) المفروض على الأمة وممن يا ترى ؟ من عدوها المتربص بها وعملائه المدسوسين في صفوفها!!
يقول السلطان عبد الحميد في مذكراته ص193( والتجديد الذي يطالبون به تحت اسم الإصلاح سيكون سبباً في اضمحلالنا ، ترى لماذا يوصي أعداؤنا الذين عاهدوا الشيطان بهذه الوصية بالذات ؟ لا شك أنهم يعلمون علم اليقين أن الإصلاح هو الداء وليس الدواء ، وأنه كفيل بالقضاء على هذه الإمبراطورية ) ا. هـ ويقول السلطان عبد الحميد أيضاً في ص 89 من المذكرات نفسها ما نصه ( إنها دسيسة كبرى اختلقوها وسموها إصلاحاً !! خير لنا أن يتركونا وشأننا) ا.هـ
هذه النصوص لم يقلها أحد المعاصرين ، بل قالها أناس عاصروا تلك الفترة وقرءوها جيداً ،بل وكانوا على رأس الهرم السياسي فيها، ثم هاهي النتيجة أمامنا واضحة بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني الذي عارض مثل هذه الإصلاحات ( علمانية تركيا – إلغاء للخلافة – طرد الخليفة - منعٌ لسلالة آل عثمان من المرور فوق تركيا ولو بالطائرة – إلغاء للشريعة الإسلامية – منع الحجاب – تصاريح رسمية للبغاء – تحالف وتآلف مع إسرائيل – انحناء وذله لأوروبا- تغيير الأحرف العربية باللاتينية ....... الخ ) فهل هذا هو الإصلاح المرتجى من تحت الحذاء الأمريكي لنا ولمجتمعنا ؟!!
العلمانيون واللبراليون شر ، والشر لا يجنى منه خير أبداً ، فهل من متعظ بالتاريخ ؟! أتمنى أن أجد !!
2/ الضغوط الأجنبية
كانت الدولة العثمانية وبصفتها حاميةً لحمى الإسلام في تلك الفترة – وإن كانت قد انحرفت عن مساره الحقيقي ولكن الغرب لا يفهم ذلك- قد واجهت ضغوطا بريطانية وفرنسية وروسية عن طريق التدخل السافر في شؤونها الداخلية ،وذلك من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من التركة العثمانية المرتقب توزيعها فيما بعد !!ومما يؤسف له أن الدولة العثمانية قد استجابت لهذا الضغوط أملاً منها في كف أيدي هؤلاء عن التدخل في شئونها ،ولكن هذه التنازلات لم تغن عنها شيئاً ،تصديقاً لقوله تعالى ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) !!ولم يزد الدولة العثمانية التنازل إلا أخاً له أكبر منه !! فالتنازلات هي الوحيدة التي اخوتها الذين يجيئون بعدها أكبر منها !!كما سنرى بعد قليل .
يقول السلطان عبد الحميد الثاني عن هذه الضغوط ص 89 بما نصه " مطالب الدول في الإصلاحات لا تكاد تنتهي بالرغم أنها لا تعرف شيئاً عن البناء الاجتماعي لبلادنا فإنها لا تتوانى عن تقديم التوصيات تلو التوصيات " . وهذا ما نشاهده في التدخل حتى في شئون إدارتنا لمنازلنا ومحارمنا !
3/الدستور العثماني
من الوسائل التغريبية التي سربت إلى رحم الدولة العثمانية مشروع( الدستور العثماني) ، وقد تم ذلك عن طريق عدد من المستغربين العثمان،فقد دعا أولائك المفتونون بالغرب إلى إقامة دستور مستمد من الكتاب والسنة (خطوة أولى) وطالبوا بتقنين التعزير وحده بسطور الدستور !!وقد تم لهم ذلك في عهد السلطان عبدا لعزيز ، وتم على إثره إنشاء ( مجلة الأحكام العدلية) وهي الدستور.
وهذا الطلب له عدة أهداف .. منها : الحد من سلطان الخليفة ،وتقييد الأحكام الشرعية وتضييق نطاقها ،وضرب مركزية الحاكم وتمييعها سواءً الحاكم الإداري – الخليفة - أو الحاكم الشرعي – القاضي – والقضاء على مبدأ الولاء والبراء في الدولة من خلال مساواة أهل الذمة بالمسلمين ،وبذلك يضمن هؤلاء تسريب مخططاتهم إلى أجهزة الدولة الأخرى في ظل غياب المركزية الإدارية والفكرية.ولست هنا مع دكتاتورية الحاكم ،ولكني وبشدة مع مركزية وأحادية القرار والسلطة (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) (إذن لذهب كل إله بما خلق) !!
وقد خفق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحدهم قائلا (أتيت لا تخشى سلطان السماء فأردت أن أخبرك بأن سلطان الأرض لا يخشاك) !!
وتحضرني بهذه المناسبة قصة طريفة وقعت في (مضيف) الملك عبد العزيز ،فقد قابل أحد البادية هناك بريطانياً يجيد العربية فسأله قائلاً : الملك عندكم يشرّه ؟ ( أي يوزع المال على رعيته )!!
فأجاب البريطاني: لا !!
فقال البدوي : طيب يقطع الرأس ؟!!
فأجاب البريطاني: لا !!
فرد البدوي قائلاً : ما هو ملك !!
وهذه القصة على بساطتها إلا أنها تحمل كثير صحة ،ولها شواهدها التاريخية .. فمثلاً يؤرخ للضعف في الدولة العباسية بخلافة الخليفة (المتوكل) والتي سحبت فيه مركزية الحاكم بواسطة الجند الأتراك !!ويؤرخ أيضاً لضعف الدولة العثمانية بتسلط (الإنكشارية) على الخلفاء وتعيينهم وعزلهم بل وقتلهم إذا لزم الأمر ،ويؤرخ لسقوطها نهائياً بتولي (الدستوريين )-العلمانيين- لمقاليد الأمور فيها بعد زوال حكم السلطان عبد الحميد الثاني الذي كان قد ألغى الدستور وعلّق أعماله!!
هذه المركزية التي أسهبت الحديث عنها أول من سيسحبها من ولاة الأمر هم أولاء العلمانيين ،والتاريخ يشهد ، فممالك أوروبا نفسها أصبحت رمزية بسبب العلمانية ،وفي تونس في عهد (الباي) أسس مجلس تشريعي ضم 60 عضوا له سلطات واسعة ،ومنها حق خلع( الباي) إذا خالف بتصرفاته أحكام الدستور ،بينما في الإسلام لا يجوز على المسلمين خلع الحاكم حتى ولو خالف الشريعة الإسلامية ،إلا أن يأتي بكفر بواح لها عنده من الله برهان ،على أن يتعين عند الخلع أيضاً حالة القدرة والاستطاعة !!وليت أننا نضيف بأن حاملي هذا الفكر- العلمانيين- في خلفيتهم الثقافية والتكوينية تعارض يكاد يكون شبه تام مع الملكيات وفكرتها بشكل عام!! يضاف إلى ذلك بأن الفئة اللبرالية عموماً مصابة بحب الظهور والشهرة ،فهي تستغل المجالس النيابية لتفرض وصايتها على الشعب ،وتنتهي بمجالس تفرض وصايتها على الحاكم !! وما قصة (باي) تونس منا ببعيد !!ولعلي لا أبعد إن قلت بأن كثيراً من أولاء العلمانيين في مراكز استصدار القرار في الدولة ليتخيل نفسه رئيساً للوزراء فيها كـ بلير ،بينما (بن سعود) كـ اليزابيث !!
4/ المدارس الأجنبية
لن أكتب عن هذه كثيراً ،لأن هناك شاهد عصر سيكفيني المئونة ،إنه السلطان عبد الحميد الثاني _ أخلص خلفاء بني عثمان في عصور الانحطاط – حيث يقول في مذكراته ص 187ما نصه ( إن المدارس الخاصة تشكل خطراً كبيراً على بلادنا ،وقد كان خطؤنا جسيماً إذ سمحنا لكل دولة في كل زمان ومكان بإنشاء المدارس التي يرغبونها ،والآن نجني ضرر ما زرعنا ،سمحنا لهم بفتح هذه المدارس ،فقاموا يعلمون الطلاب أفكاراً معادية لبلادنا ،فسأحاسب وزير المعارف على إهماله) !!إي والله بهذا النص !!فما أشبه الليلة بالبارحة( 1) !!
ولا أدري عن شعور ولاة أمرنا إذا ما علموا بأن هذه المدارس قد تخرج منها مصطفى كمال أتا تورك مزيل دولة آل عثمان من الوجود؟!!
وأود أن أنقل هنا فقرتين فقط مما جاء في كتاب الشيخ بكر أبو زيد من معلومات هامة وتحليل دقيق حول هذا الأمر :
1- أن مدرسة التنصير التي افتتحت في استانبول عام 1863م هي التي قادت حركة التمرد على الدولة العثمانية بزعامة قائد الإلحاد والعلمنة والتغريب أتاتورك (1924-1938).. وهذا هدم للدولة الإسلامية .
2- أن مدرسة التنصير التي افتتحت في بيروت عام 1823م هي التي طرحت فكرة "القومية العربية" وتولت قيادتها في الوسط الإسلامي.وهذا هدم الحكم بالإسلام عقيدة وشريعة. وممن حذر من هذه المدارس فضيلة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله فقال ("ولتضع الحكومات العربية القوانين الصريحة بإغلاق كل مدرسة أجنبية إنكليزية أو فرنسية أو أمريكية، وإلا ذهب عملنا هباء، وكان عبثاً، وأخرجت هذه المدارس من أبنائنا أعداء لنا وأعواناً لعدونا، كما وقع في الشام حين تولّى ضرب دمشق رجل عربي أبوه شيخ اسمه علاء الدين الإمام –عليه لعنة الله" انتهى من: "مجلة الرسالة – العدد/743". هذا غيض من فيض مما ورد عن أخطار هذه المدارس ، ولعلنا قرأنا عن قصة الفتاة ( لجين) والتي منعتها مديرتها الإنجليزية من الحجاب ،وأين ؟!! في جدة وبالقرب من مكة المكرمة !! فعلام نلوم شيراك إذن ؟!!
5/ بروز قرن (الوطنية) والعصبية
كانت الدولة العثمانية( أممية) في سلطانها وفكرها،وذاك لإسلاميتها أولاً ولمنصب الخلافة ثانياً ،وكان الخليفة العثماني يرى في الشعوب والعرقيات المرتبطة به أنها شعبه لا فرق بين عربيها وعجميها ، فالإقليمية تعني سقوط حكمه مباشرة ، ولذا وبمجرد بروز الوطنية التركية العرقية على حساب الدين سارعت على إثره جميع العرقيات الأخرى بالثورة على الدولة العثمانية والانفصال عنها !!
يقول السلطان عبد الحميد في مذكراته ص177(بدأ بعض الشباب الذين اكتسوا قشور الحضارة الغربية بإلقاء خطب في الدعوة إلى حب الوطن ، لكن حب الوطن في بلادنا العثمانية يجب أن يأتي بعد حب الدين الذي يحتل المرتبة الأولى) ا هـ .وقد تم نزع (الدينية) عن الصبغة العثمانية واستبدلت بالنزعة الطورانية التركية ،فماذا كانت النتيجة ؟!!
إن حب الوطن والذود عن حياضه شئ واجب لكنما الخلاف في صيغة وجوبه ،فالوطن أرض إسلامية والدفاع عنه ومحبته يجب أن يكونا من هذا المنطلق وبهذه الصيغة ، لا أن يتحول إلى وثن يعبد ويلثم من دون الله !!فالكعبة وهي أقدس بقاع الأرض يذاد عنها لأنها بيت الله لا لأنها جدار أسود عتيق عاصرناه وعاشرناه منذ آلاف السنين!! ولكن ما نشاهده في صحفنا هذه الأيام من التغني في حب الوطن والإكثار من ذكره بمعزل عن الدين ما هو إلا دعوة علمانية بحتة ،شعارها المبطن (الدين لله والوطن للجميع)،وهذا التغني المصحوب بالدعوة في بعض صحفنا إلى الانكفاء الوطني وعدم الإحساس بإخواننا المسلمين وآلامهم،وعدم اعتبار الدين مقياساً في تصريف الأمور ما هو إلا تفريغ للدين من محتواه الشمولي ،وأيضاً فإننا وعلى الجانب الدنيوي وإذا ما سمحنا لهذه الصيحة بالتعالي فإننا ودولتنا سنفقد ثقلنا في العالم الإسلامي والذي نعول على مؤازرته فيما لو (...... )!!. كما أننا لا ندري ولعل الله قد صرف عنا السوء بكثير صدقاتنا التي وصلت أصقاع الأرض وعن طريق مؤسساتنا الخيرية والتي بدأت تحل عقدها العظيمة في بلادنا فالله المستعان ! ولعل في تخلي الدولة العثمانية عن أمميتها الدينية عن طريق اللبراليين العثمان ما يغني عن معرفة النتيجة بظهور القوميات المختلفة في أنحائها .
6/ موضوع الأقليات الدينية
هناك شامة بارزة في تاريخ الدولة العثمانية اصطلح على تسميتها تاريخيا وسياسياً بـ (المسألة الشرقية) ، ولمن لا يعرف المقصود بهذه العبارة فأفيده بأن الدول الغربية الصليبية قد جعلت من حماية أقلياتها الدينية من النصارى – الأرثوذكس – والكاثوليك – حجةً في التدخل لحمايتهم ، وقد ساهم هذا الأسلوب في انتزاع العديد من المعاهدات مع الدولة العثمانية تجيز لهذه الدول التدخل متى شاءت وكيفما شاءت لحماية أقلياتها!! وكانت هذه الدول الصليبية تحرك رعاياها النصارى متى شاءت لإرباك الدولة العثمانية وخلخلتها،وقد كان عاقبة هذا العبث الطائفي على الدولة العثمانية خسراً ،فالثورات القومية العربية كانت من تحت رأس نصارى لبنان والشام والذين لا يشعرون بأي ولاء تجاه الدولة العثمانية!!
7/الرقابة الفكرية
في المنتدى الثقافي السعودي الفائت ، تحدث جمع من المثقفين وفي مقدمتهم "غازي القصيبي " بأن براء حالتنا الثقافية من أمراضها لا يكون إلا بالحرية ، والتي فسروها بفتح المجال التام للمطبوعات دون رقيب شرعي أو سياسي عليها !
ومن المعلوم بأن بلادنا يوجد بها نظام المطبوعات ، والذي يقوم على متابعة المخطوطات ومراقبة المطبوعات من أي فكر متطرف يمينا كان أو يسارا . وهذا النظام كان سائدا لدى الدولة العثمانية - أعني نظام المطبوعات - ولما اخترق هذا النظام واضمحل رأينا كما في كتب التاريخ كيف أن الدولة العثمانية ساهم في نشر الفكر المضاد لها إهمال مراقبة المطبوعات من صحف وغيرها ، وكانت تنتشر في أرجاء الدولة الصحف المعارضة لها مما ساهم في زعزعة الوضع .
يقول السلطان عبد الحميد الثاني في مذكراته ص102 مانصه " فكما أن على الأبوين منع الكتب الضارة عن أولادهم فكذلك يتوجب على الدولة أن تمنع المنشورات والكتب من أن تؤدي إلى الإضرار بأفكار الشعب ..الخ "
8/ زوال مسوغ الحضور
لكل دولة في التاريخ مسلمةً كانت أم كافرة، مسوغ جاءت به ،وهدف قالت به ،وكثير من هذه الدول زالت بزوال مسوغ مجيئها ، واستنفاد أغراضها ، وبالنسبة للدولة العثمانية فقد قامت على أساس ديني جهادي شعاره ( إما غاز وإما شهيد) ،وبصرف النظر عن بعض ما مس هذا الشعار النبيل العظيم من نقص في الشمول وعدم سعة في الإحاطة ،فقد كانت هذه الدولة العظيمة مخلصةً له ، ولها في ميزان التاريخ كثير إنصاف من هذه الناحية ، لكن الذي حدث أن الدولة العثمانية لم تستمر على هذا الأساس وما كان لها ذلك لأسباب ليس هذا مجالها، وفي نفس الوقت فإنها لم تحافظ على ما كانت قد أنجزته داخلياً ، فتوقف نبض قلبها المتدفق بتوقف هذا الشريان الحيوي ، لا لشيء ولكن المساس كان بالقاعدة التي عليها وبها نشأت الدولة العثمانية ،ومنها استمدت وجودها ،فكان السقوط والاضمحلال الذي سطره التاريخ لنا !!
إن ملة إبراهيم لا غنى عنها ،والتحول عنها هو سفه كما أخبر الله ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ) (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ..) !!
قام محمد بن رشيد بهدم قصر آل سعود بعد إسقاط حكمهم الثاني ، وفي أثناء عملية الهدم هذه التفت الأمير محمد بن رشيد إلى أحد معاونيه قائلاً : أتظن لهذا القصر الحياة مرةً أخرى ؟!!
فرد مستشاره مجاملاً : لا ولا إلى أن يبعثون !!
فرد عليه محمد بن رشيد قائلاً : والله لتسمعن بهذه الجنبات (لبنة ، طينة ) !! – يقصد أصوات البناءين أثناء البناء ومناداتهم بالماء واللبن لإكمال البناء .
فسأله المستشار مستغرباً : كيف تقول ذلك وقد هدمت قصرهم ، وشتت شملهم ،وملكت دارهم ؟!!
فأجابه بن رشيد قائلاً : هذه الدولة قامت على دعوة بن عبدا لوهاب وعلى الدين ، ومن حمل هم الدين لا يضيعه الله !!
وصدقت فراسة محمد بن رشيد فلم تمض سنيات قليلة إلا وقد عاد عبد العزيز بن عبدا لرحمن مرةً أخرى !! نعم لأن مسوغ الحضور والمجيء مازال قائماً ، وما نخشاه لهذه الدولة أن يغيب مسوغ حضورها ، وإن كانت بدأت تلوح في الأفق علامات يعرفها القارئ الرباني !!
**
وختاماً
فإن هذه البلاد قدرها الإسلام ، فهي مهد الرسالة ، ومئرز الإيمان ، ومهبط الوحي ، ومهوى الأفئدة ، وإن على الولاة أن رفع لهم الذكر ، وأسبل عليهم الرزق ، وأن يعرفوا بأن أفاعي الغدر من المنافقين العلمانيين لن يوصلوهم إلا لـ " أتا تورك " جديد ، يكون من بين قراراته طرد الملك ، ومنع أي من أفراد أسرته ولوج البلاد ولو ميتاً ، ومن الطرائف أن آخر خلفاء بني عثمان - عبد المجيد الثاني - مات في فرنسا ومنعت جنازته أن تدفن في استانبول حسب وصيته ، وذاك استناداً للأمر السامي الذي أصدر أتا تورك بمنع دخول أي أحد من السلالة العثمانية وإن كان جسداً دون روح !
إن الأمر جد ليس بهزل ، فإن المنافقين خطرهم بطيء لكنه أكيد المفعول ،وهي نصيحة من التاريخ الذي يعيد نفسه بأسماء مختلفة ، أن نعود لربنا ، ونلتزم أمره ونقف عند نهيه ، وألا نتنازل عن ديننا ، وأن نقمع العلمانيين والمنافقين وأن نكبتهم ، وهذا لا يعني مني عدم ممارسة السياسة الشرعية ومصانعة العدو إن كان قادراً قاهراً! ولكن المصانعة تكون بالمال ، والمداراة ، والالتفاف ، لا أن تكون بالدين وأحكامه ! فالرسول عليه الصلاة والسلام أعطى المال لكنه لم يعط الدين !
وختاماً .. فهل نستفيق ونسمع صوت الناصح ، أم أننا سنتذكر قول نصر بن سيار في نصيحته العالمية لبني أمية حين قال : -
أرى خلل الرماد وميض نار *** وأخشى أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى *** وإن الحرب مبدؤها كلام.
فقلت من التعجب ليت شعري *** أأيقاظ أمية أم نيام.
أأيقاظ أمية أم نيام ؟!!
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)