عندما كنت صغيراً كنت أحلم بأنني لن أعيش في وطني كثيراً
وأن هناك مكان ما سوف أذهب لأقضي فيه فترة من الوقت ، ولم أكن أعرف إلى
أين . كنت كثيراً أخبر الأصدقاء بأن الإنسان لابد أن يرحل ويبحث عن مكان
ما لكي يستطيع أن يحدد بشكل دقيق ما قيمة الوطن بالنسبة له ، وكيف ستكون
مشاعره تجاهه ؟ هل سيشعر بالغيرة عليه ؟ هل سيستاء عندما يجده لا يجاري
الأوطان الأخرى في التقدم والرقي والنظافة والاهتمام ؟ هل سيشعر بالعداء
تجاه كل من يتلفظ عليه بكلمات لا ترضيه ؟ هل سيشعر بالحنين الدائم إليه ؟
كل هذه التساؤلات لن تستطيع الإجابة عليها إلا عندما تذهب في رحلة بعيداً
عن الوطن .

لقد شعرت بالحب الجم لوطني الحبيب
ولا يفارقني الشعور بالإشتياق الدائم لها ، ولكن هل من عودة في ظل
الظروف الإقتصادية والإجتماعية التي تمر بها الآن ؟ هل يستطيع
المواطن إشباع كل احتياجاته في ظل ارتفاع الأسعار وغلو المعيشة ؟
هل سينجح في تعليم أولاده ؟ هل سيتمكن من تأمين مستقبله ؟ هناك شك واضح في
إحتمالية تحقيق هذا ، بل أن الشك يكون أقرب إلى الواقع ، بل هو حقيقة ؛
فلن يتمكن المواطن من تحقيق ذلك .

وهنا تكمن المشكلة ، فيستغرق هذا المواطن في كثير من أحلام اليقظة ، بل وأحلام النوم كذلك ، ويحلم بكونه
هاجر إلى مكان ليحظى بسعة في الرزق ، ويصل إلى مبتغاه ، وتكون الهجرة
والسفر إلى أي مكان بمثابة السبيل الوحيد لتحقيق الحلم المفقود . وبعدما
يتحول الحلم إلى حقيقة تتعمق جذور المشكلة لتغوص في الأعماق فلايجد الفرد
القدرة على اتخاذ القرار بالعودة إلى وطنه برغم اشتياقه له . فماذا سيفعل
لو عاد إلى وطنه هل سيتمكن من العيش في مستوى أدمي يحقق له نوعية حياة
جيدة .

أما ما يلقاه الإنسان من سوء معاملة في البلد التي سيهاجر
إليها أو التي سيستقر فيها لعدد معين من السنوات فأمر معروف برغم قدره
ومكانته سيجد نوعاً من العداء والكراهية ، إن لم تكن ظاهرة فهي كامنة
تُخفى في الأنفس ؛ وهذا ما يجعل الصراع يزيد حدة بين العودة والبقاء
،
فماذا يفعل ؟ هل يعود إلى وطنه ويتحمل عبئ المعيشة القاسية ؟ أم يبقى في غربته
ويتحمل العنصرية والتمييز والتعالى والكبرياء من جانب فئة من المتغطرسين ،
الذين لا يقدرون قيمة الإنسانية وما تمتلكه من عقل وفكر وقدرة على التغيير
للأفضل ؟ ومع هذا فالوطن لا يقدر قيمة العقلاء كذلك ، ولا يقدر قيمة
العامل البسيط وقدرته على الإنجاز إذا كان المقابل مغرياً.

إن الشباب في كل مكان يفكرون في السفر وأصبحت أحلامهم وتحقيقها رهن الموت
مالم تأتي الفرصة للتغيير من خلال الخروج من الوطن إلى أي مكان . إن الأمر
في غاية الصعوبة ، فما يعانية الإنسان من ضغوط وصراعات أكبر مما يتحمله في
واقع الأمر . إن هذه الصراعات والضغوط مع استمرارها لا يستطيع الإنسان
تحملها فتبدأ تعبر عن نفسها من خلال العديد من الآلام العضوية ، كالصداع ،
والقرح ، وأمرض الضغط والقلب ، والسكر وهكذا . هذا فضلاً عن العامل النفسي
، من زيادة مشاعر الغضب الداخلية على الوطن سبب المعاناه ، والبلد التي
يعمل بها مصدر المعاناه ؛ هذا بالاضافة إلى فقدان مشاعر الحب وزيادة
المادية وسيطرة الفكر البرجماتي ، وغياب كثير من الصفات الإيجابية التي
تجعل الإنسان يتحول إلى لا إنسان .

لا أجزم أن الغربة والإبتعاد عن الوطن يفعلان بالإنسان كل هذا ، فالبطبع هناك فروق فردية في نوعية
الإستجابة لضغوط الحياة المختلفة . كما أن المكاسب التي قد يحققها الانسان
من غربته قد تكون أكبر من معاناته مما يخفف من مشاعر الألم لديه . فهناك
البعض ممن تعودوا على الغربة وأصبحت رغبتهم في العودة إلى أوطانهم منعدمة
، فالمال عالج مشكلاتهم الحياتية ، ولكنه قتل الإحساس لديهم وقضى على كثير
من الصفات النبيلة لديهم بسبب ضغيان المادية والتفكير النفعي القائم على
تبادل المصالح.

والأمثلة كثيرة من واقع الحياة فهناك على سبيبل
المثال من ترك وطنه منذ أكثر من ثلاثين عاماً وبرغم بلوغه سن المعاش ، إلا
أنه لا يرغب في العودة إلى بلادة ليعيش سنواته المتبقية بين أولاده وأهله
الذين لم يشاركونه غربته خلال هذه الفترة الزمنية التي قضاها ، وعندما
جاءت سن المعاش ذهب باكياً إلى الوزارة طالباً منهم تجديد التعاقد مبرراً
بأنه لم يعد يعرف أحد في بلاده وأنه إعتاد على هذه البلد ولا يستطيع تركها
. وهذا آخر يرغب بشدة في العودة إلى بلاده ولكنه غير قادر على إتخاذ
القرار بالإستقالة والعودة ، فهو يعايش صراع بين الغربة التي تشبع
احتياجاته المادية وتحرمه من أمور معينة ، ووطنه الذي يحرمه من أمور كثيرة
ويشبع رغبات قليلة ، فماذا يفعل ؟ لا يدري .

إن من أكبر المشكلات التي يجنيها الفرد من وراء غربته هي
الإقتراب السريع من الموت دون الشعور بذلك . هل تدركون هذه النقطة ؟ سأوضحها لكم
بشكل جيد . عندما يعيش الإنسان بعيداً عن وطنه وبعيداً عن أهله فهو يشعر
بالإشتياق الشديد للوطن وللأهل ، وطول فترة غربته يعد الأيام والليالي
ويستعجلها كي تمر بسرعة حتى يعود إلى وطنه ، ويمر الوقت يوماً بعد يوم ،
ويفاجئ الشخص أن عمره قد فات فقضى سنوات عديده بعيداً عن وطنه ، ثم يعود
إليه - إذا عاد - وهو مسن لا يقوى على شيء .

فنحن في عالم الغربة بعيداً عن الوطن ننتظر اليوم الذي نذهب فيه إلى الوطن ونستعجل الأيام
ونتمنى ان تمر بسرعة ، ونحن بذلك نتمنى أن يمر عمرنا بسرعه فكلها أيام
وسنوات تمر من اعمارنا وتقربنا أكثر فأكثر من الموت الذي يأتي فجأة ، ولا
نعلم هل سيأتي المون ونحن مستعدون له أم لا ؟

وفي النهاية أطلب من كل إنسان ذاق مر الإبتعاد عن الوطن ، أو يفكر في الهجرة أو السفر إلى
أي مكان أن يضع له مجموعة من الأهداف المحددة ويسعى إلى تحقيقها ثم يعود
إلى وطنه مرة أخرى ويستمتع بمشاعر الأمن والإستقرار والحب من خلال بقائة
بين أهله وأصدقائه واحبائه. وليعلم الإنسان ان احتياجات ومتطلبات الحياة
لا تنتهي أبدا ، وإذا ظل الفرد لاهثاً وراء رغباته في إشباع كل إحتياجاته
سيموت دون أن يدركها او يحققها بالكامل ، ولذلك فلزاماً عليه أن يرضى بما
ليس منه بد ويحمد الله ويستمتع بالحياة الدنيا ويعمل للحياة الباقية.