صفحة 1 من 14 12311 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 4 من 56

الموضوع: إعجاز القرآن للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني


  1. #1
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    إعجاز القرآن للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني

    الحمد لله المنعم على عباده بما هداهم إليه من الايمان، والمتمم إحسانه بما أقام لهم من جلى البرهان، الذي حمد نفسه بما أنزل من القرآن، ليكون بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وهاديا إلى ما ارتضى لهم من دينه، وسلطانا أوضح وجه تبيينه، ودليلا على وحدانيته، ومرشدا إلى معرفة عزته وجبروته، ومفصحا عن صفات جلاله، وعلو شأنه وعظيم سلطانه، وحجة لرسوله الذي أرسله به، وعلما على صدقه، وبينة على أنه أمينه على وحيه، وصادع بأمره.
    فما أشرفه من كتاب يتضمن صدق متحمله، ورسالة تشتمل على قول مؤديها. بين فيه سبحانه أن حجته كافية هادية، لا يحتاج مع وضوحها إلى بينة تعدوها، أو حجة تتلوها، وأن الذهاب عنها كالذهاب عن الضروريات، والتشكك في المشاهدات. ولذلك قال عز ذكره: { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين }. وقال عز وجل: { ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون }.
    فله الشكر على جزيل إحسانه، وعظيم مننه. والصلاة على محمد المصطفى وآله، وسلم.
    ومن أهم ما يجب على أهل دين الله كشفه، وأولى ما يلزم بحثه، ما كان لاصل دينهم قواما، ولقاعدة توحيدهم عمادا ونظاما وعلى صدق نبيهم برهانا، ولمعجزته ثبتا وحجة. ولا سيما أن الجهل ممدود الرواق، شديد النفاق، مستول على الآفاق، والعلم إلى عفاء ودروس، وعلى خفاء وطموس، وأهله في جفوة الزمن البهيم، يقاسون من عبوسه لقاء الأسد الشتيم [1] حتى صار ما يكابدونه قاطعا عن الواجب من سلوك مناهجه والأخذ في سبله.
    فالناس بين رجلين: ذاهب عن الحق، ذاهل عن الرشد، وآخر مصدود عن نصرته، مكدود في صنعته.
    فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين في أصول الدين وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين.
    وقد قل أنصاره، واشتغل عنه أعوانه، وأسلمه أهله. فصار عرضة لمن شاء أن يتعرض فيه، حتى عاد مثل الأمر الأول على ما خاضوا فيه عند ظهور أمره. فمن قائل قال: إنه سحر، [2] وقائل يقول: إنه شعر، [3] وآخر يقول: إنه أساطير الأولين، [4] وقالوا: لو نشاء لقلنا مثل هذا. [5] إلى الوجوه التي حكى الله عز وجل عنهم أنهم قالوا فيه، وتكلموا به، فصرفوه إليه.
    وذكر لي عن بعض جهالهم أنه جعل يعدله ببعض الأشعار، ويوازن بينه وبين غيره من الكلام، ولا يرضى بذلك حتى يفضله عليه!
    وليس هذا ببديع من ملحدة هذا العصر، وقد سبقهم إلى عظم ما يقولونه إخوانهم من ملحدة قريش وغيرهم. إلا أن أكثر من كان طعن فيه في أول أمره استبان رشده، وأبصر قصده، فتاب وأناب، وعرف من نفسه الحق بغريزة طبعه، وقوة إتقانه، لا لتصرف لسانه، بل لهداية ربه وحسن توفيقه. والجهل في هذا الوقت أغلب، والملحدون فيه عن الرشد أبعد، وعن الواجب أذهب.
    وقد كان يجوز أن يقع ممن عمل الكتب النافعة في معاني القرآن، وتكلم في فوائده من أهل صنعة العربية وغيرهم من أهل صناعة الكلام، أن يبسطوا القول في الإبانة عن وجه معجزته، والدلالة على مكانه.
    فهو أحق بكثير مما صنفوا فيه من القول في الجزء [ والطفرة ]، ودقيق الكلام في الأعراض، وكثير من بديع الإعراب وغامض النحو. فالحاجة إلى هذا أمس، والاشتغال به أوجب.
    وقد قصر بعضهم في هذه المسألة، حتى أدى ذلك إلى تحول قوم منهم إلى مذاهب البراهمة فيها، ورأوا أن عجز أصحابهم عن نصرة هذه المعجزة يوجب أن لا مستنصر فيها، ولا وجه لها، حين رأوهم قد برعوا في لطيف ما أبدعوا، وانتهوا إلى الغاية فيما أحدثوا ووضعوا. ثم رأوا ما صنفوه في هذا المعنى غير كامل في بابه، ولا مستوفى في وجهه، قد أخل بتهذيب طرقه، وأهمل ترتيب بيانه.
    وقد يعذر بعضهم في تفريط يقع منه فيه، وذهاب عنه، لأن هذا الباب مما لا يمكن إحكامه إلا بعد التقدم في أمور شريفة المحل، عظيمة المقدار، دقيقة المسلك لطيفة المأخذ.
    وإذا انتهينا إلى تفصيل القول فيها، استبان ما قلناه من الحاجة إلى هذه المقدمات، حتى يمكن بعدها إحكام القول في هذا الشأن.
    وقد صنف الجاحظ في نظم القرآن كتابا، لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله، ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى.





    وسألنا سائل أن نذكر جملة من القول جامعة، تسقط الشبهات وتزيل الشكوك التي تعرض للجهال وتنتهى إلى ما يخطر لهم ويعرض لأفهامهم من الطعن في وجه المعجزة.
    فأجبناه إلى ذلك، متقربين إلى الله عز وجل، ومتوكلين عليه وعلى حسن توفيقه ومعونته.
    ونحن نبين ما سبق فيه البيان من غيرنا، ونشير إليه ولا نبسط القول، لئلا يكون ما ألفناه مكررا ومقولا، بل يكون مستفادا من جهة هذا الكتاب خاصة.
    ونَصِف ما يجب وصفه من القول في تنزيل متصرفات الخطاب، وترتيب وجوه الكلام، وما تختلف فيه طرق البلاغة، وتتفاوت من جهته سبل البراعة، وما يشتبه له ظاهر الفصاحة، ويختلف فيه المختلفون من أهل صناعة العربية، والمعرفة بلسان العرب في أصل الوضع.
    ثم ما اختلفت به مذاهب مستعمليه في فنون ما ينقسم إليه الكلام، من شعر ورسائل وخطب، وغير ذلك من مجارى الخطاب. وإن كانت هذه الوجوه الثلاثة أصول ما يبين فيه التفاصح، وتقصد فيه البلاغة، لأن هذه أمور يتعمل لها في الأغلب، ولا يتجوز فيها.
    ثم من بعد هذا الكلام الدائر في محاوراتهم. والتفاوت فيه أكثر، لأن التعمل فيه أقل، إلا من غزارة طبع، أو فطانة تصنع وتكلف.
    ونشير إلى ما يجب في كل واحد من هذه الطرق، ليعرف عظيم محل القرآن، وليعلم ارتفاعه عن مواقع هذه الوجوه، وتجاوزه الحد الذي يصح أو يجوز أن يوازن بينه وبينها، أو يشتبه ذلك على متأمل.
    ولسنا نزعم أنه يمكننا أن نبين ما رمنا بيانه، وأردنا شرحه وتفصيله، لمن كان عن معرفة الأدب ذاهبا وعن وجه اللسان غافلا، لأن ذلك مما لا سبيل إليه، إلا أن يكون الناظر فيما نعرض عليه مما قصدنا إليه من أهل صناعة العربية، قد وقف على جمل من محاسن الكلام ومتصرفاته ومذاهبه، وعرف جملة من طرق المتكلمين، ونظر في شئ من أصول الدين.
    وإنما ضمن الله عز وجل فيه البيان لمثل من وصفناه، فقال: { كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون }. وقال: { إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }.
    http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg

    مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني



  • #2
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    فصل في أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم معجزتها القرآن

    الذي يوجب الاهتمام التام بمعرفة إعجاز القرآن، أن نبوة نبينا عليه السلام بُنيت على هذه المعجزة، وإن كان قد أيد بعد ذلك بمعجزات كثيرة. إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات خاصة، وأحوال خاصة، وعلى أشخاص خاصة. ونقل بعضها نقلا متواترا يقع به العلم وجودا. وبعضها مما نقل نقلا خاصا، إلا أنه حكى بمشهد من الجمع العظيم وأنهم شاهدوه، فلو كان الأمر على خلاف ما حكى لا نكروه، أو لا نكره بعضهم، فحل محل المعنى الأول، وإن لم يتواتر أصل النقل فيه. وبعضها مما نقل من جهة الآحاد، وكان وقوعه بين يدي الآحاد.
    فأما دلالة القرآن فهي عن معجزة عامة، عمت الثقلين، وبقيت بقاء العصرين. ولزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة على حد واحد، وإن كان قد يعلم بعجز أهل العصر الأول عن الإتيان بمثله - وجه دلالته، فيغنى ذلك عن نظر مجدد في عجز أهل هذا العصر عن الإتيان بمثله.
    وكذلك قد يغني عجز أهل هذا العصر عن الإتيان بمثله، عن النظر في حال أهل العصر الأول.
    وإنما ذكرنا هذا الفصل، لما حكى عن " بعضهم " أنه زعم أنه وإن كان قد عجز عنه أهل العصر الأول فليس أهل هذا العصر بعاجزين عنه، ويكفى عجز أهل العصر الأول في الدلالة، لأنهم خصوا بالتحدي دون غيرهم.
    ونحن نبين خطأ هذا القول في موضعه إن شاء الله.
    فأما الذي يبين ما ذكرناه من أن الله تعالى حين ابتعثه جعل معجزته القرآن وبنى أمر نبوته عليه فسور كثيرة وآيات نذكر بعضها وننبه بالمذكور على غيره، فليس يخفى بعد التنبيه على طريقه.
    فمن ذلك قوله تعالى: { الر. كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } فأخبر أنه أنزله ليقع الاهتداء به، ولا يكون كذلك إلا وهو حجة، ولا يكون حجة إن لم يكن معجزة.
    وقال عز وجل: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } فلولا أن سماعه إياه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه. ولا يكون حجة إلا وهو معجزة.
    وقال عز وجل: { وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الامين، على قلبك لتكون من المنذرين }. وهذا بين جدا فيما قلناه، من أنه جعله سببا لكونه منذرا. ثم أوضح ذلك بأن قال: { بلسان عربي مبين }. فلولا أن كونه بهذا اللسان حجة، لم يعقب كلامه الأول به.
    وما من سورة افتتحت بذكر الحروف المقطعة إلا وقد أشبع فيها بيان ما قلناه. ونحن نذكر بعضها لتستدل بذلك على ما بعده.
    وكثير من هذه السور إذا تأملته فهو من أوله إلى آخره مبني على لزوم حجة القرآن والتنبيه على وجه معجزته.
    فمن ذلك سورة المؤمن، قوله عز وجل: { حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم }. ثم وصف نفسه بما هو أهله من قوله تعالى: { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } فدل على أن الجدال في تنزيله كفر وإلحاد.
    ثم أخبر بما وقع من تكذيب الامم برسلهم، بقوله عز وجل: { كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } فتوعدهم بأنه آخِذهم في الدنيا بذنبهم في تكذيب الأنبياء.
    ورد براهينهم، فقال تعالى: { فأخذتهم فكيف كان عقاب }.
    ثم توعدهم بالنار، فقال تعالى: { وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار }.
    ثم عظم شأن المؤمنين بهذه الحجة، بما أخبر من استغفار الملائكة لهم وما وعدهم عليه من المغفرة، فقال تعالى: { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا: ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم }. فلولا أنه برهان قاهر لم يذم الكفار على العدول عنه، ولم يحمد المؤمنين على المصير إليه.
    ثم ذكر تمام الآيات في دعاء الملائكة للمؤمنين، ثم عطف على وعيد الكافرين، فذكر آيات، ثم قال: { هو الذي يريكم آياته }. فأمر بالنظر في آياته وبراهينه، إلى أن قال: { رفيع الدرجات ذو العرش، يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده، لينذر يوم التلاق } فجعل القرآن والوحي به كالروح، لأنه يؤدي إلى حياة الأبد ولانه لا فائدة للجسد من دون الروح. فجعل هذا الروح سببا للانذار، وعلما عليه، وطريقا إليه. ولولا أن ذلك برهان بنفسه لم يصح أن يقع به الانذار والإخبار عما يقع عند مخالفته، ولم يكن الخبر عن الواقع في الآخرة عند ردهم دلالته من الوعيد - حجة ولا معلوما صدقه، فكان لا يلزمهم قبوله.
    فلما خلص من الآيات في ذكر الوعيد على ترك القبول، ضرب لهم المثل بمن خالف الآيات، وجحد الدلالات والمعجزات، فقال: { أوَلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم، كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض، فأخذهم الله بذنوبهم، وما كان لهم من الله من واق }.
    ثم بين أن عاقبتهم صارت إلى السُّوآى، بأن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات، وكانوا لا يقبلونها منهم. فعلم أن ما قدم ذكره في السورة بينه رسول الله .
    ثم ذكر قصة موسى ويوسف عليهما السلام، ومجيئهما بالبينات، ومخالفتهم حكمها، إلى أن قال تعالى: { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار }. فأخبر أن جدالهم في هذه الآيات لا يقع بحجة، وإنما يقع عن جهل، وأن الله يطبع على قلوبهم، ويصرفهم عن تفهم وجه البرهان، لجحودهم وعنادهم واستكبارهم.
    ثم ذكر كثيرا من الاحتجاج على التوحيد، ثم قال تعالى: { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون }.
    ثم بين هذه الجملة وأن من آياته الكتاب، فقال: { الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون }. إلى أن قال: { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله }.
    فدل على أن الآيات على ضربين: أحدهما كالمعجزات التي هي أدلة في دار التكليف، والثاني الآيات التي ينقطع عندها العذر، ويقع عندها العلم الضروري، وأنها إذا جاءت ارتفع التكليف، ووجب الإهلاك. إلى أن قال تعالى: { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا }. فأعلمنا أنه قادر على هذه الآيات، ولكنه إذا أقامها زال التكليف، وحقت العقوبة على الجاحدين.
    وكذلك ذكر في حم السجدة على هذا المنهاج الذي شرحنا، فقال عز وجل: { حم. تنزيل الكتاب من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون. بشيرا ونذيرا } فلولا أنه جعله برهانا لم يكن بشيرا ولا نذيرا، ولم يختلف بأن يكون عربيا مفصلا أو بخلاف ذلك.
    ثم أخبر عن جحودهم وقلة قبولهم، بقوله تعالى: { فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون }. ولولا أنه حجة لم يضرهم الإعراض عنه.
    وليس لقائل أن يقول: قد يكون حجة ولكن يحتاج في كونه حجة إلى دلالة أخرى، كما أن الرسول حجة، ولكنه يحتاج إلى دلالة على صدقه، وصحة نبوته.
    وذلك أنه إنما احتج عليهم بنفس هذا التنزيل، ولم يذكر حجة غيره.


  • #3
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    ويبين ذلك أنه قال عقيب هذا: { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى }. فأخبر أنه مثلهم لولا الوحي.
    ثم عطف عليه بحمد المؤمنين به المصدقين له، فقال: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون }. ومعناه: الذين آمنوا بهذا الوحي والتنزيل، وعرفوا هذه الحجة.
    ثم تصرف في الاحتجاج على الوحدانية والقدرة، إلى أن قال: { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }. فتوعدهم بما أصاب من قبلهم من المكذبين بآيات الله من قوم عاد وثمود في الدنيا. ثم توعدهم بأمر الآخرة، فقال: { ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون }، إلى انتهاء ما ذكره فيه.
    ثم رجع إلى ذكر القرآن، فقال: { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون }.
    ثم أثنى بعد ذلك على من تلقاه بالقبول، فقال: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا }. ثم قال: { وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم }.
    وهذا ينبه على أن النبي يعرف إعجاز القرآن، وأنه دلالة له على جهة الاستدلال، لأن الضروريات لا يقع فيها نزع الشيطان. ونحن نبين ما يتعلق بهذا الفصل في موضعه.
    ثم قال: { إن الذين يلحدون في آياتنا }، إلى أن قال: { إن الذين كفرا بالذكر لما جاءهم، وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه }. وهذا وإن كان متأولا على أنه لا يوجد فيه غير الحق مما يتضمنه من أقاصيص الأولين وأخبار المرسلين، وكذلك لا يوجد خلف فيما يتضمنه من الإخبار عن الغيوب وعن الحوادث التي أنبأ أنها تقع في الآتي - فلا يخرج عن أن يكون متأولا على ما يقتضيه نظام الخطاب، مع أنه لا يأتيه ما يبطله من شبهة سابقة تقدح في معجزته أو تعارضه في طريقه. وكذلك لا يأتيه من بعده قط أمر يشكك في وجه دلالته [ وإعجازه ]. وهذا أشبه بسياق الكلام ونظامه.
    ثم قال: { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته، أأعجمي وعربي } فأخبر أنه لو كان أعجميا لكانوا يحتجون في رده: إما بأن ذلك خارج عن عرف خطابهم، أو كانوا يعتذرون بذهابهم عن معرفة معناه وبأنهم لا يبين لهم وجه الإعجاز فيه. لأنه ليس من شأنهم ولا من لسانهم، أو بغير ذلك من الأمور، وأنه إذا تحداهم إلى ما هو من لسانهم وشأنهم فعجزوا عنه - وجبت الحجة عليهم به، على ما نبينه في وجه هذا الفصل. إلى أن قال: { قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به، من أضل ممن هو في شقاق بعيد }.
    والذي ذكرناه من نظم هاتين السورتين ينبه على غيرهما من السور، فكر هنا سرد القول فيها. فليتأمل المتأمل ما دللناه عليه يجده كذلك.
    ثم مما يدل على هذا قوله عز وجل: { وقالوا: لولا أنزل عليه آيات من ربه، قل إنما الآيات عند الله، وإنما أنا نذير مبين. أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } فأخبر أن الكتاب آية من آياته، وعلم من أعلامه، وأن ذلك يكفى في الدلالة، ويقوم مقام معجزات غيره وآيات سواه من الأنبياء، صلوات الله عليهم.
    ويدل عليه قوله عز وجل: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، الذي له ملك السموات والأرض }.
    ويدل عليه قوله: { أم يقولون افترى على الله كذبا، فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمحو الله الباطل ويحق الحق بكلماته }.
    فدل على أنه جعل قلبه مستودعا لوحيه، ومستنزلا لكتابه، وأنه لو شاء صرف ذلك إلى غيره. وكان له حكم دلالته على تحقيق الحق، وإبطال الباطل مع صرفه عنه. ولذلك أشباه كثيرة تدل على نحو الدلالة التي وصفناها.
    فبان بهذا وبنظائره ما قلناه من أن بناء نبوته على دلالة القرآن ومعجزته، وصار له من الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يعلم أنه كلام الله تعالى، وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء، لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد عليها، ووصف منضاف إليها، لأن نظمها ليس معجزا، وإن كان ما تتضمنه من الإخبار عن الغيوب معجزا.
    وليس كذلك القرآن، لأنه يشاركها في هذه الدلالة، ويزيد عليها في أن نظمه معجز، فيمكن أن يستدل به عليه، وحل في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم سبحانه وتعالى، لأن موسى عليه السلام لما سمع كلامه علم أنه في الحقيقة كلامه.
    وكذلك من يسمع القرآن يعلم أنه كلام الله، وإن اختلف الخال في ذلك من بعض الوجوه، لأن موسى عليه السلام سمعه من الله عز وجل، وأسمعه نفسه متكلما، وليس كذلك الواحد منا. وكذلك قد يختلفان في غير هذا الوجه، وليس ذلك قصدنا بالكلام في هذا الفصل.
    والذي نرومه الآن ما بيناه من اتفاقهما في المعنى الذي وصفناه، وهو: أنه عليه السلام يعلم أن ما يسمعه كلام الله من جهة الاستدلال، وكذلك نحن نعلم ما نقرؤه من هذا على جهة الاستدلال.
    فصل في الدلالة على أن القرآن معجز

    قد ثبت بما بينا في الفصل الأول أن نبوة نبينا مبنية على دلالة معجزة القرآن. فيجب أن نبين وجه الدلالة من ذلك:
    قد ذكر العلماء أن الأصل في هذا هو أن يعلم أن القرآن، الذي هو متلو محفوظ مرسوم في المصاحف، هو الذي جاء به النبي ، وأنه هو الذي تلاه على من في عصره ثلاثا وعشرين سنة.
    والطريق إلى معرفة ذلك هو النقل المتواتر، الذي يقع عنده العلم الضروري به.
    وذلك أنه قام به في المواقف، وكتب به إلى البلاد، وتحمله عنه إليها من تابعه، وأورده على غيره ممن لم يتابعه، حتى ظهر فيهم الظهور الذي لا يشتبه على أحد، ولا يخيل أنه قد خرج من أتى بقرآن يتلوه، ويأخذه على غيره، ويأخذه غيره على الناس، حتى انتشر ذلك في أرض العرب كلها، وتعدى إلى الملوك المصاقبة لهم، كملك الروم والعجم والقبط والحبش، وغيرهم من ملوك الأطراف.
    ولما ورد ذلك مضادا لأديان أهل ذلك العصر كلهم، ومخالفا لوجوه اعتقاداتهم المختلفة في الكفر - وقف جميع أهل الخلاف على جملته، ووقف جميع أهل دينه الذين أكرمهم الله بالايمان على جملته وتفاصيله، وتظاهر بينهم، حتى حفظه الرجال، وتنقلت به الرحال، وتعلمه الكبير والصغير، إذ كان عمدة دينهم، وعلما عليه، والمفروض تلاوته في صلواتهم، والواجب استعماله في أحكامهم.
    ثم تناقله خلف عن سلف هم مثلهم في كثرتهم وتوفر دواعيهم على نقله، حتى انتهى إلينا، على ما وصفناه من حاله.
    فلن يتشكك أحد، ولا يجوز أن يتشكك، مع وجود هذه الأسباب، في أنه أتى بهذا القرآن من عند الله تعالى. فهذا أصل.
    وإذا ثبت هذا الأصل وجودا، فإنا نقول: إنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله، وقرعهم على ترك الإتيان به، طول السنين التي وصفناها، فلم يأتوا بذلك. [ وهذا أصل ثان ].
    والذي يدل على هذا الاصل: أنا قد علمنا أن ذلك مذكور في القرآن في المواضع الكثيرة، كقوله: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين }.
    وكقوله: { أم يقولون افتراه، قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون }.
    فجعل عجزهم عن الإتيان بمثله دليلا على أنه منه ودليلا على وحدانيته.
    وذلك يدل عندنا على بطلان قول من زعم أنه لا يمكن أن تُعلم بالقرآن الوحدانية، وزعم أن ذلك مما لا سبيل إليه إلا من جهة العقل، لأن القرآن كلام الله عز وجل، ولا يصح أن يعلم الكلام حتى يعلم المتكلم أولا.
    فقلنا: إذا ثبت بما نبينه إعجازه، وأن الخلق لا يقدرون عليه - ثبت أن الذي أتى به غيرهم، وأنه إنما يختص بالقدرة عليه من يختص بالقدرة عليهم، وأنه صدق. وإذا كان كذلك كان ما يتضمنه صدقا، وليس إذا أمكن معرفته من جهة العقل امتنع أن يعرف من [ طريق القرآن، بل يمكن عندنا أن يعرف من ] الوجهين.
    وليس الغرض تحقيق القول في هذا الفصل لأنه خارج عن مقصود كلامنا، ولكنا ذكرناه من جهة دلالة الآية عليه.
    ومن ذلك قوله عز وجل: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } وقوله: { أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون. فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } فقد ثبت بما بيناه أنه تحداهم إليه ولم يأتوا بمثله.


  • #4
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    وفي هذا أمران: أحدهما التحدي إليه. والآخر أنهم لم يأتوا له بمثل. والذي يدل على ذلك النقل المتواتر الذي يقع به العلم الضروري، فلا يمكن جحود واحد من هذين الأمرين.
    وإن قال قائل: لعله لم يقرأ عليهم الآيات التي فيها ذكر التحدي وإنما قرأ عليهم ما سوى ذلك من القرآن؛ كان ذلك قولا باطلا، يعلم بطلانه بمثل ما يعلم به بطلان قول من زعم أن القرآن أضعاف هذا! وهو يبلغ حمل جمل! وأنه كُتم وسيظهره المهدي! أو يدّعى أن هذا القرآن ليس هو الذي جاء به النبي ، وإنما هو شئ وضعه عمر أو عثمان رضي الله عنهما، حيث وضع المصحف. أو يدعى فيه زيادة أو نقصانا.
    وقد ضمن الله حفظ كتابه أن يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، ووعده الحق.
    وحكاية قول من قال ذلك يغنى عن الرد عليه. لأن العدد الذين أخذوا القرآن في الامصار وفي البوادي، وفي الأسفار والحضر، وضبطوه حفظا، من بين صغير وكبير، وعرفوه حتى صار لا يشتبه على أحد منهم حرف - لا يجوز عليهم السهو والنسيان، ولا التخليط فيه والكتمان. ولو زادوا أو نقصوا أو غيروا لظهر.
    وقد علمت أن شعر امرئ القيس وغيره - على أنه لا يجوز أن يظهر ظهور القرآن، ولا أن يحفظ كحفظه، ولا أن يضبط كضبطه، ولا أن تمس الحاجة إليه إمساسها إلى القرآن - لو زيد فيه بيت، أو نقص منه بيت، لا، بل لو غير فيه لفظ - لتبرأ منه أصحابه، وأنكره أربابه.
    فإذا كان ذلك مما لا يمكن في شعر امرئ القيس ونظرائه، مع أن الحاجة إليه تقع لحفظ العربية، فكيف يجوز أو يمكن ما ذكروه في القرآن، مع شدة الحاجة إليه في أصل الدين، ثم في الأحكام والشرائع، واشتمال الهمم المختلفة على ضبطه:
    فمنهم من يضبطه لإحكام قراءته ومعرفة وجوهها وصحة أدائها.
    ومنهم من يحفظه للشرائع والفقه.
    ومنهم من يضبطه ليعرف تفسيره ومعانيه.
    ومنهم من يقصد بحفظه الفصاحة والبلاغة.
    ومن الملحدين من يحصله لينظر في عجيب شأنه.
    وكيف يجوز على أهل هذه الهمم المختلفة والآراء المتباينة - على كثرة أعدادهم واختلاف بلادهم وتفاوت أغراضهم - أن يجتمعوا على التغيير والتبديل والكتمان؟
    ويبين ذلك: أنك إذا تأملت ما ذكر في أكثر السور مما بينا، ومن نظائره في رد قومه عليه ورد غيرهم، وقولهم: { لو نشاء لقلنا مثل هذا } [ وقول بعضهم: إن ذلك سحر ]، وقول بعضهم: { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق } إلى الوجوه التي يصرف إليها قولهم في الطعن عليه.
    فمنهم من يستهين بها ويجعل ذلك سببا لتركه الإتيان بمثله.
    ومنهم من يزعم أنه مفترى، فلذلك لا يأتي بمثله.
    ومنهم من يزعم أنه دارسَ، وأنه أساطير الأولين.
    وكرهنا أن نذكر كل آية تدل على تحديه، لئلا يقع التطويل.
    ولو جاز أن يكون بعضه مكتوما لجاز على كله. ولو جاز أن يكون بعضه موضوعا لجاز ذلك في كله.
    فثبت بما بيناه أنه تحداهم به، وأنهم لم يأتوا بمثله. وهذا الفصل قد بينا أن الجميع قد ذكروه وبنوا عليه.
    فإذا ثبت هذا وجب أن يعلم بعده أن تركهم للإتيان بمثله كان لعجزهم عنه.
    والذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن: أنه تحداهم إليه حتى طال التحدي، وجعله دلالة على صدقه ونبوته، وضمن أحكامه استباحة دمائهم وأموالهم وسبي ذريتهم، فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا وتوصلوا إلى تخليص أنفسهم وأهليهم وأموالهم من حكمه، بأمر قريب، هو عادتهم في لسانهم، ومألوف من خطابهم، وكان ذلك يغنيهم عن تكلف القتال، وإكثار المراء والجدال، وعن الجلاء عن الأوطان، وعن تسليم الأهل والذرية للسبي. فلما لم تحصل هناك معارضة منهم، عُلم أنهم عاجزون عنها.
    يبين ذلك أن العدو يقصد لدفع قول عدوه بكل ما قدر عليه من المكايد، لا سيما مع استعظامه ما بدهه بالمجئ من خلع آلهته، وتسفيه رأيه في ديانته، وتضليل آبائه، والتغريب عليه بما جاء به، وإظهار أمر يوجب الانقياد لطاعته، والتصرف على حكم إرادته، والعدول عن إلفه وعادته، والانخراط في سلك الأتباع بعد أن كان متبوعا، والتشييع بعد أن كان مشيعا، وتحكيم الغير في ماله، وتسليطه إياه على جملة أحواله، والدخول تحت تكاليف شاقة، وعبادات متعبة، بقوله، وقد علم أن بعض هذه الاحوال مما يدعو إلى سلب النفوس دونه.
    هذا، والحمية حميتهم، والهمم الكبيرة هممهم، وقد بذلوا له السيف فأخطروا بنفوسهم وأموالهم.
    فكيف يجوز أن لا يتوصلوا إلى الرد عليه وإلى تكذيبه بأهون سعيهم ومألوف أمرهم، وما يمكن تناوله من غير أن يعرق فيه جبين، [ أو ينقطع دونه وتين ]، أو يشتمل به خاطر، وهو لسانهم الذي يتخاطبون به، مع بلوغهم في الفصاحة النهاية التي ليس وراءها متطلع، والرتبة التي ليس فوقها منزع؟
    ومعلوم أنهم لو عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره، وتكذيب قوله، وتفريق جمعه، وتشتيت أسبابه، وكان من صدق به يرجع على أعقابه، ويعود في مذهب أصحابه.
    فلما لم يفعلوا شيئا من ذلك، مع طول المدة، ووقوع الفسحة، وكان أمره يتزايد حالا فحالا، ويعلو شيئا فشيئا، وهم على العجز عن القدح في آيته، والطعن [ بما يؤثر ] في دلالته - عُلم مما بينا أنهم كانوا لا يقدرون على معارضته، ولا على توهين حجته.
    وقد أخبر الله تعالى عنهم: أنهم { قوم خصمون } وقال: { وتنذر به قوما لدا }، وقال: { خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين }.
    وعلم أيضا ما كانوا يقولونه من وجوه اعتراضهم على القرآن، مما حكى الله عز وجل عنهم في قولهم: { لو نشاء لقلنا مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين } وقولهم: { ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } وقالوا: { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } وقالوا: { أفتأتون السحر وأنتم تبصرون } وقالوا: { أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون }، وقال: { وقال الذين كفروا: إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا، وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا }، { وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا }، وقوله: { الذين جعلوا القرآن عضين }. إلى آيات كثيرة في نحو هذا، تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم، متعجبين من عجزهم، يفزعون إلى نحو هذه الأمور: من تعليل وتعذير ومدافعة بما وقع التحدي إليه ووجد الحث عليه.
    وقد علم منهم أنهم ناصبوه الحرب، وجاهدوه ونابذوه، وقطعوا الارحام، وأخطروا بأنفسهم، وطالبوه بالآيات والإتيان [ بالملائكة ] وغير ذلك من المعجزات، يريدون تعجيزه ليظهروا عليه بوجه من الوجوه.
    فكيف يجوز أن يقدروا على معارضته القريبة السهلة عليهم - وذلك يدحض حجته، ويفسد دلالته، ويبطل أمره - فيعدلون عن ذلك إلى سائر ما صاروا إليه من الأمور التي ليس عليها مزيد في المنابذة والمعاداة، ويتركون الأمر الخفيف؟
    هذا مما يمتنع وقوعه في العادات، ولا يجوز اتفاقه من العقلاء.
    وإلى هذا [ الموضع ] قد استقصى أهل العلم الكلام، وأكثروا في هذا المعنى وأحكموه.
    ويمكن أن يقال: إنهم لو كانوا قادرين على معارضته والإتيان بمثل ما أتى به، لم يجز أن يتفق منهم ترك المعارضة، وهم على ما هم عليه من الذرابة والسلاقة [6] والمعرفة بوجوه الفصاحة، وهو يستطيل عليهم بأنهم عاجزون عن مباراته، وأنهم يضعفون عن مجاراته، ويكرر فيما جاء به ذكر عجزهم عن مثل ما يأتي به، ويقرعهم ويؤنبهم عليه، ويدرك آماله فيهم، وينجح ما سعى له في تركهم المعارضة.
    وهو يذكر فيما يتلوه تعظيم شأنه، وتفخيم أمره، حتى يتلو قوله تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }، وقوله: { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون }، وقوله: { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم }، وقوله: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }، وقوله: { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون } وقوله: { هدى للمتقين }، وقوله: { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله }.

  • صفحة 1 من 14 12311 ... الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. فرصة ذهبية ختم القرآن باسبوع ( شهر القرآن)
      بواسطة دمعة فرح في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 10
      آخر مشاركة: 08-09-2010, 06:54 PM
    2. الطيب تيزيني
      بواسطة ميادة كامل في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 4
      آخر مشاركة: 04-27-2010, 08:49 PM
    3. إعجاز رباني يثبت لنا أن حتى شكل الفاكهة والخضروات ما خلق عبثاً
      بواسطة SHARIEF FATTOUH في المنتدى ملتقى الحـــوار العام للمغتربين السوريينDialogue Discussion Forum
      مشاركات: 5
      آخر مشاركة: 04-05-2010, 03:51 AM
    4. إعجاز القرآن الكريم في مدة الرضاعة ونوعيتها
      بواسطة سوسن في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 2
      آخر مشاركة: 03-27-2010, 01:27 AM
    5. جوزة الطيب.. فوائدها واستعمالاتها
      بواسطة Dr.Ibrahim في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 03-05-2010, 09:37 PM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1