قال لها "احبك" .
فأجابته "انني اعبدك" .
وعاشا بعدهاأياماً مفعمة بالحب والنشوة والغرام ، قريبين من الأنظار حيناً وبعيدين عنهاأحياناً ، كأنهما يضعان اللمسات الأخيرة وراء الكواليس على مشروع قبلا به . ثم مضتاليه تصارحه بضرورة خطبتها ، لأنها تعيش في وسط لايسمح بتكوين علاقات اجتماعيةضبابية في وضح النهار .
لم يتردد في خطبتها . وأوحى لها بأن علاقتهما هي أكبرمن أن تكون علاقات سطحية أو مشبوهة بلا هدف أو حبراً على ورق ، مما أزدادت بهتعلقاً والتصاقاً جعلها تمنحه بسخاء أكثر مما طلب !
وفي البداية رفض أهلها طلبه، وزرعوا في طريقه أكثر من شوكة ، زاعمين بأنها لم تكمل دراستها الاعدادية
بعد، تارة ، وان الأثنين اصغر من أن يتزوجان تارة اخرى .
لم تتخل الفتاة عنه قط ،فكانت تضحي بكل شيء لأجله ولأجل الغد الذي سيجمعهما تحت سقف واحد . وكانت ترددعبارتها المتكررة : (هو أو لا) ، في حين كان يبادلها عبارات أكثر فخامة وأكثر بلاغةوتأثيراً وسحراً مما تركها تسرح في اوهام واحلام لم تألفها من قبل مؤكداً لها وبكلجوارحه عبارته التقليدية المتكررة : (هي أو لا) .
ومضى دولاب الحياة يدوردوراناً رتيباً كما الفناه ، بلا توقف ولا رحمة ، غير آبه بالعصافير وزقزقتهاوالبلابل وشجيها . والطيور والحمام والبراءة كلهم لايعنون شيئاً لهذا الدولاب . (الا ما اقساك أيها الدهر !) هكذا كانا يتحدثنان متى ما التقيا وكأن الحياة هي طيوروعصافير لاغير .
ومضت اليه وقد تطرفت في تعلقها وتشبثها به ، مضت اليه خلسة وفيالعلن وقد أذابها الأرق وأنهكها التفكير وأدمع عينيها القلق والمجهول . وأحالت لاآتأهلها ابتسامتها العذبة الى وجوم يدير الأعناق ، ومضت اليه وهي تنشد فيه المستحيل . لقد افلح في أداء الأدوار التمثيلية من دون مخرج أو بروفات . فكان صديقها وجارهاوخطيبها و ... و ... في آن واحد . وكانت تعزي نفسها دائماً باثارة هذا الكلام (هكذايكون الانسان النموذج وإلا فلا) .
وفي كل زيارة مسموح بها أو غير مسموح بهاكانت تعود وقد طفحت بالشحنات والوعود العسلية . واخيراً اعادت الكرة ثانية بصورةغير مباشرة على أهلها مستعينة ببنات الجيران وبعض من امهاتهن ولفيف من الأقارب ،ذوي التأثير المباشر . وكانت الحبكة هذه المرة ناجعة مما أذاب الجليد واجبر التيارالمتصلب في الأسرة على قبول التماسات الجيران والأقارب . أي بمعنى آخر خضعوا للرضوخ . بيد أن الكلمة الأولى والأخيرة تبقى بيد الأب المتعصب الذي حشد الكل جهودهم مرةواحدة لاقناعه بجدوى هذا الزواج الميمون من العريس اللقطة .
وقبل أن تتلمس عروسالمستقبل الموافقة النهائية ، حيث كان الجدل محتدما ويميل الى الموافقة ، هرعتيريفان ، ذات الستة عشر ربيعاً ، من دون علم أحد الى عريس المستقبل المتيم حيث قالتله :
"
لقد بذلت المستحيل في التعبئة لاقناع أهليبأنك فتى احلامي الأولوالأخير . واكاد اسلم بأن الضوء الأخضر اضيء . هذا ما باحت به لي ابنة عمي قبلدقائق باحتمال حصول الموافقة . ولهذا جئتك طافحة بالأمل أزف لك هذه البشرى . " تمتموقد صعقته سرعة تدبيراتها الناجحة ثم قال بصوت خافت : " ولم العجلة ؟ أعني لملاتنهين دراستك الاعدادية وانا انهي سنتي الجامعية الأخيرة ؟ " قالت : " وهذالايعني أنك لاتستطيع خطبتي الآن . أنت تعرف أن كل شيء على ما يرام حتى هذه اللحظة . " أجاب ببرود قاتل : " ولكن الأفضل أن ننتظر ، يا يريفان .
- "
ألا تعلم أننيبذلت المستحيل محاولة اقناع أهلي المتعصبين بأنك الأنسان الذي يروق لهم ويرضيكبرياءهم ؟ أنت تعلم كم طلباً رفضت لحد الآن . " أجابها كمن مسه الجنون وفقدالكياسة في الكلام " كان الأجدر بك أن لا ترفضي . "
وهنا ارخت العنان لدموعهاكي تنساب بحرارة . وارتبكت نبرات صوتها واختنقت انفاسها . واخذت تحرك يديهابعشوائية وارتباك. وقالت بصوت مقطع الأوصال، مطرز بالندم: " اهكذا تتوج تضحيتي وحبيلك، يا (دون جوان) ! ؟ "
- "
اهدأي قليلاً . " واستنفرت كل طاقاتها في جملةواحدة وهي تقول " انت تتسلى ببنات الناس ، أيها الوغد . "
اجابها اجابة البلهاءالصبيان الطائشين وكأنه يتشفى بها " اذا راق ذلك لهن . "
- "
ماذا تقول ؟ ماذاتقول أيها الوقح ؟ ماذا .... ؟ "
- "
أقول ، ان ما عشناه يجب أن يبقى مجرد ذكرىلذيذة ، ليس غير . "
قاطعته وهي تهز رأسها بندم وتمسح عينيها بيديها وهي تقول : " لنفترق ... عرفت كل شيء . انتهى كل شيء "
وعادت لبيتها وهي تضرب أخماساًبأسداس ، مدركة بأنها فرطت في (كل شيء) . فرطت في حبها ، في شخصيتها ، في انوثتها ،في كبريائها ، في اسرار وجودها ، في العطاء ... العطاء دون حساب .
لقد كانتابنة عمها في انتظارها على الباب لتزف لها بشرى موافقة الأب على زواجها . كما سمعتأصوات الزغاريد والهلاهل على بعد بضعة أمتار . وما أن رأت ابنة عمها حتى علتالزغاريد ، ودخلت يريفان الدار والكل يهنئونها ويتطلعون الى عروس المستقبل التي كانمظهرها يوحي بالدوار . لقد شعرت بأكثر من الدوار لقد خرت على الأرض صريعة واطبقتشفتاها وساد الصمت فيما سكبت احدى الواقفات الماء عليها لعلها تتحرك . لكن يريفانسكتت الى الأبد . لقد طاوعها قلبها المرهف بالحس طيلة فترة العلاقة مع الخطيبالوهمي في التوقف أيضاً . قالت احدى المزغردات : " انه دلع البنات ، وان وقعالموافقة على الزواج كان فوق مستوى ادراكها . " دافعت الام عن ابنتها قائلة " انيريفان تعرف بحصول الموافقة . لكن عمتها قالت : " انها الفرحة الكبرى ليس غير . " لكن يريفان سكتت ثم سكتت ثم سكتت والى الأبد دون شاهد على سكوتها الأبدي . لقد سكتتفي وسط الأفراح والأغاني والأهازيج . سكتت ولم تشر باصبع اتهام لأحد . نعم لقد سكتتالطالبة ... الانثى الى الأبد .
وارخى الليل سدوله وانقلبت الأفراح الى أتراح . وكل يصبر كلاً بأننا سنؤول الى نفس المصير والكل يقولون
(
انا لله وانا اليهراجعون) .
لكن المجرم الحقيقي بقي بعيداً عن مسرح جريمته . لا ... بل راح من راحلمواساته وتعزيته واسداء النصح اليه بالصبر وثبات الهمة . بيد أنه يجيد أدوارالتمثيل الصامت والمتحرك على حد سواء . فقد سهل عليه استدرار دموع الآخرين وابتياععطفهم بتأوهاته المصطنعة وشروده المفتعل . لكن يريفان ماتت بصمت وسرية . ماتت وعلىوجهها علامات استفهام كبيرة كأنها تقول : " لماذا يتغير الانسان عندما يبلغ مبتغاه؟ ولماذا لايلتزم الانسان بما قطعه على نفسه من وعود ؟ اسئلة وأسئلة ارتسمت علىوجهها الصافي لكن الجاني الحقيقي ضل غائباً عن الأذهان . ولا أحد يعرف من هو . وفيالصباح التالي ، شيعت العروس المنكوبة الى مثواها الأخير . ونعت بعض المشيعينيريفان بالعروس الشهيدة فيما نعتها آخرون بالضحية والبريئة وهكذا . ولكن ، يبقىالجاني بعيداً عن المساءلة ، لأنه لا أحد يعرف بكنه التفاصيل سوى الموت الذي اختطفهذه الشابة وحتى القضاء مهما كان معمقاً يتساوى مع البسطاء لغياب الدليل . ولو كانشكسبير حياً بيننا لتألم لهذه النهاية المفجعة من طرف واحد على النقيض من موت روميوالذي سبق جوليت الى مصيره المحتوم.



لماذا يتغيرالانسان عندما يبلغ مبتغاه ؟ ولماذا لايلتزم الانسان بما قطعه على نفسه منوعود

أسئلة عميقة وقفت عندها وقفة صمت , لا أدري كيف أجيبعنها في زمن غاب عنه معنى العطاء والوفاء والتضحية ...

لله ما أشدّ قسوةقلبكَ أيها الخائن !!؟؟؟...
أين ضميركَ , وأين إحساسك بالحب , ومشاعره الدافقة !!؟؟؟...
بالأصل والله إنك خاويا من كل المبادئ والقيم الإنسانية , فكيف لنا أننسأل عن ضميركَ أيها الشقي !!؟؟؟...