البنت الثالثة ... الجزء (1) بقلم محمد عبد الوهاب جسري
ستبدأ قصتي عندما كنت في ربيعي الثاني عشر، عندما دق بابنا ذلك الشاب الوسيم طالباً أختي الكبرى للزواج، كنا ثلاث أخوات وكنت أنا أصغرهن..... دخلت الفرحة إلى بيتنا الذي لا يعرف الكثير عن الرجولة إلا من خلال هذا الأب الطيب، الذي كان يتفانى في تربيتنا والحفاظ على رزقته الكبرى، ثلاث بنات لا يدري أيهن أقرب إلى قلبه، فالكبرى كانت فرحته الأولى ، والوسطى كانت تحمل من الرقة والطيب ما يكفي ليوزع على بنات المدينة كلها ، وأنا آخر العنقود، الأكثر دلالا والتي أتعبت الأسرة كلها، فقد عودوني جميعاً أن طلباتي مجابة، ورغباتي ماهي إلا أوامر يجب أن تنفذ على عجل.
كان العريس شاباً لطيفاً وكنا نسعد بزيارته أثناء فترة خطوبته لأختي الكبرى، وعندما كان يغادر كنا نمضي الكثير من الوقت في أحاديث البنات، فالأحلام بدأت تتحقق وهاهو الفارس قد أتى ليخطف الكبرى ونحن سننتظر دورنا....
مرت سنة من الأفراح المتوالية، عقد القرآن، وبعده حفلة الزفاف، ثم رزقا بتوأم ، أسموهما قيس وليلى تعبيراً عن ذلك الحب الكبير الذي جمعهما....
في تلك الفترة التي صار فيها عمر التوأمين عامين، كنا نشعر أنهما محور حياتنا جميعاً وكنا نتنافس مع عائلة زوج أختي في إسعاد الأطفال وتقديم الهدايا لهم، وكانت والدتنا تحثنا دائماً أنا وأختي الوسطى على تقديم العون لأختنا الكبرى فالتوأم بحاجة إلى عناية ورعاية قد لا تستطيع وحدها القيام بها، والشهادة لله فقد كان لأختي الوسطى الحظ الأوفر في تقديم العون....
لم تكتمل فرحتنا، التي سرعان ما تحولت إلى كارثة على مستوى الأسرة والعائلة كلها عندما قـُتلت أختي الكبرى برعونة سائق الباص التي أودت بحياة ستة أشخاص وتشويه آخرين.... وانقلبت أفراحنا إلى أحزان تترافق في كل لحظة مع اعتنائنا بالتوأم، كنا نحاول جاهدين أن لا ينقطع عنهما نفس الحياة، أما أصداء تلك الكارثة فقد بدأ يظهر بعد شهرين تقريباً، فقد كانت أختي الوسطى الأكثر اعتناءً بهما، مما جعل والديَّ يفكران بتزويج أختي الوسطي لزوج أختي، فطيبة قلبها هي الملاذ الآمن للتوأمين.....
لم يأخذ الموضوع كثيراً من الجدل ، خاصة وأننا نعرف الرجل جيداً وأنه لم يظهر ممانعة لهذه الفكرة فالوفاء لزوجته الأولى تعني له الاعتناء بالأطفال وتفضيل مصلحتهم على أي أمر آخر....
تم الزواج بدون احتفالات ، فالجرح لازال ساخناً وسمو الهدف أكبر بكثير من النظر إلى تلك الأمور القشرية....
حان الوقت لدخول الطفلين إلى رياض الأطفال، فقد بلغا الخامسة، وردتان جميلتان تنثران عبقهما أينما تواجدتا، تحيران العالم بتلك الألفة الظاهرة بينهما، لا ندري أهي بسبب أنهما توأم ، أم لسبب آخر مرتبط بالكارثة المبكرة التي حصلت في هذه الأسرة الصغيرة..... كان الجميع يشعر بالرضا فقد بدأت الأمور تستقر، ونزيف الجرح الكبير بدأ يندمل، لكنه جرح حفر في وجداننا جميعاً ولن تمحوه تقلبات الدهر كله.
لكن أمراً آخر بدأ يؤرق أفكار الكبار، يتحدثون عنه بصوت حيناً، ويناقشونه بصمت أحياناً أخرى، فعلى ما يبدو أن أختي الوسطى ليس لديها القدرة على الانجاب، حاولت أن تتعالج لكن محاولاتها كانت خجولة ولا ترقى إلى مستوى التصميم على الحمل و الانجاب، لا ندري ما السر في عدم اكتراثها للأمر، لكن شيئاً ما في داخلها يجعلها تتباطأ في السعي إلى محاولات أخرى.....
لم يمض وقت طويل حتى تكشف ذلك السر....... إنها مصابة بسرطان الدم، بدأت حالتها بالتدهور، أخذت دوري في مساعدتها في العناية بالأطفال إلى جانب والدتي التي بدأ يهاجمها الشيب بكل قوته نتيجة الكارثة الجديدة التي تلوح بالأفق.....
في تلك الفترة كنت أمضي معظم نهاري عندها، معها ، حولها، كان حديثها عن سعادتها بحبي للأطفال وتعلقهم بي يؤرقني ، يؤلمني ، يبكيني في وحدتي ، يمزق قلبي و يفتت كبدي....
تنازلت عن كل آمالي ، طموحاتي ، أحلامي ، همومي ، أصبح همي الوحيد أن تتماثل أختي للشفاء وأن لا تتكرر الكارثة، لأنها إن تكررت لا سمح الله، فإنني سأصبح الشمس الوحيدة التي لا يرى الناس سواها، لكنني لست وحدي التي أفكر في هذا المنطق، فقد لاحظت من زوج أختي كيف يتهرب ويخرج من بيته عندما أكون موجودة عندهم لتقديم العون والاعتناء بالأطفال....وكيف لا تجرؤ عيناه على النظر في وجهي عندما يحدثني في أي أمر يتعلق بزوجته أو أطفاله....
بدأت حالة أختي تزداد سوءاً ، فالأدوية قوية جداً ، أحياناً أراها كالشبح فقد هزل جسدها وبدأ يتساقط شعرها، وبدت تتحدث بأحاديث المودع....
كثيراً ما كنت أرتجف خوفاً من المستقبل ، من غموضه، مما تخبأه لنا الأيام.....، كنت أقوم بإعداد الطعام للأطفال عندما رن جرس الهاتف، أختي نائمة ، متأثرة بالأدوية ، فأخذت السماعة
_ ألو..._ السلام عليكم، كيفك حبيبتي ؟؟_ أنا ..... أنا ....._ عفواً ... عفواً_ إنها نائمة_ كيف الأطفال ؟_ بخير ، أجهز لهم طعام الغداء_ طيب، شكراً ، هل يلزمك شيء ؟؟_ لا ، هل ستأتي على الغداء...._ لا أدري ، أريد أن آتي ، ولا أريد، لكنني سآتي قبل موعد وصول الطبيب مساءً_ طيب ، بأمان اللهقلتها بشفاه ترتجف خوفاً ، دفعت بالسماعة إلى مكانها قبل أن تسقط من يدي، دخلت في دوامة كبيرة من العواصف الثائرة والعواطف المتضاربة، هل أمتنع عن المجيء إلى هنا؟؟ هل أفقد إنسانيتي وأبتعد عن أختي التي هي بين الموت والحياة فأذبح أملها؟؟ هل أجعل الأطفال ضحية لمخاوفي ؟؟؟
إنني متيقنة أنه كان يُسلم على زوجته ، خاصة وأنه لم يعتد أن يردّ غيرها على الهاتف، وعلى ثقة كبيرة برجولته وشهامته وحبه الكبير لها ، لا بل أرى قلبه يحترق كما يحترق قلبي وربما أكثر، لكنني أيضاً على ثقة كبيرة بأن مخاوفه لا تقل عن مخاوفي من حصول الكارثة الثانية....وتبعاتها
ناديت على الأطفال ليساعدوني على النهوض فقد أحسست أن وزني تضاعف ثلاث مرات، حاولت أن ألاعبهم عندما قلت لهم هيا أمسكوا بيدي لتساعدوني على النهوض إن أحببتم أن أجهز لكم البطاطا المقلية التي تحبونها....
أقطع حبات البطاطا لا حبات البصل ، فلمَ هذه الدموع التي تهدر ؟؟ هل فقدتُ صوابي وضاع إيماني وأنا أحدث نفسي متوجهة بحديثي إلى أختي....وكأن موتها محتم ، وكأن أرواحنا هي من ممتلكاتنا ، أختي حبيبتي ، أرجوكِ ثم أرجوكِ ، لا تموتي.... بدأ كل شي ينهار من حولي ، بدأت أخسر إيماني.....وكأن أقدارنا نرسمها بأيدينا.... يا لخسارتي على تلك الأفكار التي تراودني........
كان علي أن أرسم الابتسامة على وجهي قبل أن أدعو الأطفال إلى طعامهم، فذهبت لأنظر في المرآة لأرى إن كنت سأنجح في ذلك....
غسلت وجهي علـّني أرمم ما حفره مجرى الدموع ، نظرت في المرآة وحدقت في تفاصيل وجهي ... وتملكني خوف شديد عندما بدأت أنظر في عيوني..... فبدأت أبعد أنظاري عن التركيز على النظر في عيوني ، لكن لا لأدري لماذا تنجذب مجدداً لتحدق فيهما، بدأ الرعب ينصبُّ من عقلي إلى قلبي..... قررت أن أبتعد عن المرآة قبل أن أصاب بجنون مطلق.
قيس ، ليلى ..... الغداء جاهز ، هيا إلى غرفة الطعام.
محمد عبد الوهاب جسري
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)