أولاً: أحمد الشريف يحترق على بلاده ويرسل محمد أسد لمعرفة أخبار المجاهدين:
كان محمد أسد صاحب كتاب الطريق إلى الإسلام قد تعرف على أحمد الشريف أثناء إقامته في الحجاز وقد تأثر به غاية التأثر، وأحبه حباً عظيماً، يقول محمد أسد: (ليس في الجزيرة العربية كلها شخص أحببته كما أحببت السيد أحمد، ذلك أنه مامن رجل ضحى بنفسه تضحية كاملة مجردة عن كل غاية في سبيل مثل أعلى، كما فعل هو. لقد وقف حياته كلها، عالماً ومحارباً، على بعث المجتمع الإسلامي بعثاً روحياً، وعلى نضاله في سبيل الاستقلال السياسي ذلك أنه كان يعرف جيداً أن الواحد لايمكن أن يتحقق من دون الآخر).
لقد تعرف محمد أسد على أحمد الشريف بواسطة المجاهد الأندونيسي حاجي آغوس سالم الذي كان يمثل مركز القيادة في جهاد اندونيسيا ضد أعدائها، وكان قد جاء معه بقصد الحج وعندما عرف السيد أحمد الشريف أن محمد أسد حديث عهد بالإسلام، مد إليه يده وقال: (مرحباً بك بين إخوانك، يا أخي الشاب ..). لقد أحب محمد أسد أحمد الشريف وتفاعل مع قضية ليبيا وكان يمضي معه وبصحبة السيد محمد الزوي الساعات الطوال للبحث في وضع المجاهدين في ليبيا واستمرت الإجتماعات في مساء كل يوم طيلة أسبوع تقريباً لبحث ماكان بالإمكان صنعه، وقد رأى الشيخ محمد الزوي أن إمداد المجاهدين بين الفينة والأخرى لم يكن من شأنه أن يحل المشكلة، فقد كان يعتقد أن واحة الكفرة، في الجنوب من صحراء ليبيا يجب أن تكون ثاني محور لكل العمليات الحربية في المستقبل وكان يظن أن الكفرة كانت ماتزال بعيدة عن تناول الجيوش الإيطالية، وفوق ذلك فقد كانت تقع على طريق القوافل (ولو كان طويلاً وشاقاً) إلى واحتي بحرية وفرفرة المصريتين، ولذا كان يمكن تموينها بصورة جادة أكثر من أي موقع آخر في ليبيا، كما كان يمكن أن يتحول كثير من المهاجرين إلى مصر إليها لتكون مستودعاً دائماً لإمداد عمر المختار في الشمال، وكان أحمد الشريف مستعداً للذهاب بنفسه، لو أمكن إعادة تنظيم القتال على تلك الصورة، للإشراف على العمليات الجهادية بنفسه.
لقد تحدث محمد أسد عن سبب اهتمامه بالقضية السنوسية فقال: لم يكن اهتمامي البالغ بمصير السنوسيين ناشئاً عن إعجابي ببطولتهم المتناهية في قضية عادلة مقسطة فحسب، بل ان ماكان يهمني أكثر من ذلك هو ماكان يمكن أن يحدثه انتصار السنوسيين من تأثير على العالم العربي بأكمله إذ أنني لم استطع أن أرى في العالم الإسلامي كله إلا حركة واحدة كانت تسعى صادقة إلى تحقيق المجتمع الإسلامي المثالي: الحركة السنوسية، التي كانت تحارب الآن معركتها الأخيرة في سبيل الحياة وبسبب أن السيد أحمد كان يعرف مبلغ عطفي الشديد على القضية السنوسية، فقد التفت إلي وسدد نظره إلى عيني وسألني قائلاً: (هل تذهب، يامحمد إلى برقة بالنيابة عنا، فتقف على مايمكن صنعه للمجاهدين؟ لعلك تستطيع أن ترى الأمور بأجلى مما يراها بنو قومي ...).
وبعد أن وافق محمد أسد على تلك المهمة الصعبة تناول أحمد الشريف من على أحد الرفوف نسخة من القرآن الكريم ملفوفة بغلاف من الحرير، وبعد أن وضعها على ركبتيه أمسك بيدي اليمنى بين يديه ووضعها على الكتاب:
(أقسم يامحمد، بالله الذي يعلم مافي القلوب، على أنك ستبقى أميناً للمجاهدين ...).
قال محمد أسد: فأقسمت ولم أشعر في حياتي يوماً أنني كنت أكثر وثوقاً بوعدي مما كنت في تلك اللحظة.
قام أحمد الشريف بترتيب أمور هذه الرحلة واتصل باتباع الحركة في مصر ووصل الخبر إلى عمر المختار واستعد محمد أسد لهذه الرحلة المثيرة مع رفيقه زيد من قبيلة شمّر، وشرع في تنفيذ خطواته وكان رجال الحركة السنوسية يقودونه بمهارة بارعة حتى وجد نفسه أمام عمر المختار في الجبل الأخضر وقد فصل الأستاذ محمد أسد تلك الرحلة في كتابه المشهور.
لقاءه بعمر المختار :
بعد دخول محمد أسد إلى الجبل الأخضر من جهة الصحراء الغربية المصرية بواسطة المجاهدين الذين أرسلهم عمر المختار لاستقباله وجد محمد أسد نفسه أمام قائد حركة الجهاد ويصف لنا محمد أسد ذلك اللقاء فيقول: كان يحيط به رجلان من كل جانب، ويتبعه كذلك عدد آخر، وعندما وصل إلى الصخور التي كنا ننتظر عندها، ساعده أحد رجاله على النزول، ورأيت انه كان يمشي بصعوبة (عرفت بعدئذ أنه قد جرح إبان إحدى المناوشات قبل ذلك بعشرة أيام) وعلى ضوء القمر المشرق استطعت الآن أن أراه بوضوح: كان رجلاً معتدل القامة قوي البنية ذا لحية قصيرة بيضاء كالثلج تحيط بوجهه الكئيب ذي الخطوط العميقة. وكانت عيناه عميقتين، ومن الغضون المحيطة بهما كان باستطاعة المرء أن يعرف انهما كانتا ضاحكتين براقتين في غير هذه الظروف، إلا انهما لم يكن فيهما الآن شيء غير الظلمة والألم والشجاعة.
واقتربت منه لأحييه، وشعرت بالقوة التي ضغطت بها يده على يدي (مرحباًبك، يا ابني) قال ذلك وأخذ يجيل عينيه في متفحصاً: لقد كانت عيني رجل كان الخطر خبزه اليومي.
وفرش أحد رجاله حراماً على الأرض فجلس سيدي عمر عليه متثاقلاً. وانحنى عبدالرحمن ليقبل يده ثم شرع بعد استئذانه، يوقد ناراً خفيفة تحت الصخرة التي كنا محتمين بها وعلى ضوء النار الخافت، قرأ سيدي عمر الكتاب الذي حملنيه السيد أحمد إليه. لقد قرأه باهتمام وعناية، ثم طواه ووضعه لحظة فوق رأسه - وهي إمارة الإحترام والحب لايكاد المرء يراها في جزيرة العرب ولكنه كثيراً مايراها في شمالي افريقيا - ثم التفت إلي مبتسماًوقال: (لقد أطراك السيد أحمد، أطال الله عمره، في كتابه. أنت على استعداد لمساعدتنا، ولكنني لا أعلم من أين يمكن أن تأتينا النجدة، إلا من الله العلي الكريم. إننا حقاً على وشك أن نبلغ نهاية أجلنا ..).
فقلت: (ولكن .. هذه الخطة التي وضعها السيد أحمد، ألا يمكن أن تكون بداية جديدة؟ وإذا أمكن تدبير الحصول على المؤن والذخائر من الكفرة بصورة ثابتة، أفلا يمكن صد الإيطاليين؟ ).
لم أرى في حياتي ابتسامة تدل على ذلك القدر من المرارة واليأس كتلك الابتسامة التي رافقت جواب سيدي عمر: (الكفرة ...؟ لقد خسرنا الكفرة، فالإيطاليون قد احتلوها منذ أسبوعين تقريباً ...).
وأذهلني الخبر، ذلك إنني والسيد أحمد، طوال تلك الأشهر الماضية، كنا نبني خططنا على افتراض أن الكفرة يمكن أن تكون نقطة تجمع لتقوية المقاومة، أما وقد ضاعت كفرة فإنه لم يبق للسنوسيين سوى نجد الجبل الأخضر لاشيء سوى كماشة الإيطاليين التي كانوا يضيقونها بثبات واستمرار .. وخسارة نقطة بعد نقطة .. واختناق بطئ).
- وكيف سقطت الكفرة؟
فأومأ سيدي عمر إيماءة متعبة إلى أحد رجاله أن يقترب: (دع هذا الرجل يقص عليك الخبر .. إنه واحد من أولئك القلائل الذين هربوا من الكفرة، ولم يصل عندي إلا بالأمس).
وجلس الكفري على ردفيه أمامي وجذب برنسه البالي حوله وتكلم ببطء دون أن يبدو في صوته أي أثر للانفعال، ولكن وجهه الناحل كان يعكس جميع الأهوال التي شهدها.
- (لقد خرجوا علينا في ثلاث فرق من ثلاث جهات، وكان معهم سيارات مصفحة ومدافع ثقيلة كثيرة. أما طائراتهم فقد حلقت على علو منخفض ورمت بالقنابل البيوت والمساجد وغياض النخيل. لم يكن لدينا سوى بضع مئات من الرجال يستطيعون حمل السلاح، أما الباقون فقد كانوا نساء وأطفالاً وشيوخاً. لقد دافعنا عن أنفسنا بيتاً بيتاً، ولكنهم كانوا أقوى كثيراً منا، وفي النهاية لم يبق إلا قرية الهواري. لم تنفع بنادقنا في سياراتهم المصفحة فطغوا علينا، وتمكن عدد قليل جداً من الهرب. أما أنا فقد اختبأت في حدائق النخيل، مترقباً الفرصة لشق طريقي خلال الخطوط الإيطالية، وكنت طوال الليل أسمع ولولة النساء اللواتي كان الجنود الإيطاليون والعساكر الاريتريون يغتصبونهن وفي اليوم التالي احضرت لي امرأة عجوز بعض الماء والخبز، واخبرتني أن الجنرال الإيطالي قد حشد كل ماتبقى على قيد الحياة أمام قبر السيد محمد المهدي وأمام أعينهم مزق نسخة من القرآن الكريم ثم رماها الى الارض وداس عليها بحذائه صائحاً: (دعوا نبيكم البدوي يساعدكم الآن، اذا استطاع!) ثم أمر بقطع اشجار النخيل في الواحة وهدم آبارها، واحرق كل ماكان في مكتبة السيد احمد البدوي من كتب وفي اليوم التالي اصدر امره بوضع بعض شيوخنا وعلمائنا في طائرة حلقت بهم ورمتهم من علو شاهق، وطوال الليلة التالية كنت اسمع من مخبئي صرخات النساء وضحكات الجنود وطلقات بنادقهم ... واخيراً زحفت الى الصحراء في ظلام الليل فوجدت جملاً شارداً امتطيته ووليت فراراً...).
وعندما انهى الرجل قصته المروعة قربني سيدي عمر إليه بلطف وكرر قوله: (انك تستطيع ان ترى، يابني، اننا قد اقتربنا فعلاً من نهاية أجلنا) ثم اضاف: (اننا نقاتل لأن علينا ان نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة او نموت نحن وليس لنا ان نختار غير ذلك. إنا لله وإنا إليه راجعون - لقد ارسلنا نساءنا واولادنا الى مصر كيما نطمئن على سلامتهم متى شاء الله لنا أن نموت).
قلت: (ولكن ياسيدي عمر، اليس من الافضل لك وللمجاهدين ان تنسحبوا الى مصر بينما لايزال هناك طريق مفتوح امامكم؟ فلقد يكون من الممكن في مصر جمع المهاجرين الكثيرين من برقة وتنظيم قوة اكثر فعالية وجدوى. ان القتال هناك يجب ان يوقف بعض الوقت حتى يستعد الرجال شيئاً من قوتهم ... انا اعرف ان البريطانيين في مصر لاينظرون بعين الرضى الى وجود قوات ايطالية راسخة الاقدام على خاصرتهم، فقد يغضون الطرف، والله اعلم، عن استعداداتكم فيما اذا اقنعتموهم بانكم لا تعتبرونهم اعداء...).
فأجاب : (كلا ياابني، لم يعد هذا يجدي الآن. ان ماتقوله كان ممكناً منذ خمس عشرة او ست عشرة سنة، قبل ان يقوم السيد احمد، اطال الله عمره، بمهاجمة البريطانيين كي يساعد الاتراك - الذين لم يساعدونا ... أما الآن فلم يعد في الامر مايجدي.. ان البريطانيين لن يحركوا اصبعاً لكي يسهلوا علينا امرنا، والايطاليون مصممون على ان يقاتلونا حتى النهاية، وعلى سحق كل إمكانية للمقاومة في المستقبل، فاذا ذهبت واتباعي الآن الى مصر، فاننا لن نتمكن مطلقاً من العودة ثانية، وكيف نستطيع ان نتخلى عن قومنا ونتركهم ولا زعيم لهم، لاعداء الله يفترسونهم؟).
- وما قول السيد ادريس؟ هل يشاركك الرأي ياسيد عمر ؟
- (إن السيد ادريس رجل طيب. انه ولد طيب لوالد عظيم، ولكن الله لم يعطه قلباً يمكنه من تحمل مثل هذا الصراع...).
كان زيد الشمّري رفيق محمد اسد في رحلته بصحبة خليل احد المجاهدين لأحضار قرب الماء، وبعدما رجع وقع بصر خليل على سيدي عمر هجم لتقبيل يده، وبعد ذلك قدم محمد اسد زيداً الى عمر المختار فوضع المختار يده على كتفه وقال:
- (مرحباً بك، ياأخي، من أرض اجدادي. من أي العرب انت؟" وعندما اخبره زيد انه من قبيلة شمر، أومأ عمر برأسه مبتسماً : (آه ، اذن انت من قبيلة حاتم الطائي، اكرم الناس يداً...).
وقدم لهم رجال المختار بعض التمر ودعاهم المختار الى ذلك الطعام البسيط فأكلوا، ونهض قائد المجاهدين وقال: (آن لنا أن نتحرك من هنا. اننا على مقرب من المركز الايطالي في بوصفية، ولذا لا نستطيع ان نتأخر حتى الفجر..).
وتحرك محمد اسد مع قائد حركة الجهاد ووصل الى معسكر المجاهدين ووقعت عيناه على امرأتين احدهما مسنة والاخرى شابة - في المعسكر كانتا جالستين بالقرب من احد النيران، مستغرقتين في اصلاح سرج ممزق بمخرز غليظ.
وعندما لحظ الشيخ عمر المختار دهشة محمد اسد قال: (إن اختينا هاتين تذهبان معنا حيثما نذهب. لقد رفضتا ان تسعيا الى امن مصر مع سائر نسائنا واولادنا. انهما ام وابنتها، وقد فقدتا جميع رجالهما في الحرب...).
اتفق عمر المختار مع محمد اسد على طريقة امداد المجاهدين بالمؤن والعتاد والسلاح عن طريق الطريق التي جاء منها محمد اسد، مع انشاء مستودعات سرية في واحات بحرية وفرفرة وسيوه ، وكان عمر المختار يشك في امكانية الافلات من مراقبة الايطاليين بهذه الطريقة مدة طويلة.
وقد تبين بعد ذلك ان ظنونه ومخاوفه كانت في محلها، ذلك انه بعد بضعة اشهر تمكنت قافلة تحمل المؤمن والذخائر من الوصول فعلاً الى المجاهدين ، إلا ان الايطاليين اكتشفوها بينما كانت تجتاز الفجوة بين الجغبوب وجالو، وسريعاً ما انشأوا بعد ذلك مركزاً محصناً في بير طرفاوي على نصف المسافة تقريباً بين الواحتين، مما جعل، بالاضافة الى الدوريات الجوية المستمرة، كل مسعى آخر من هذا النوع خطراً الى أبعد الحدود.
وكان قد تقرر رجوع محمد اسد وزيد الشمرّي الى الحجاز ورجوع من حيث أتوا بواسطة المجاهدين البواسل الذي رتبوا الامور، وأخذوا بالاسباب، وحافظوا على ضيوفهم الكرام.
يقول محمد اسد: وودعت وزيد عمر المختار، ولم نره بعد ذلك اطلاقاً، ذلك انه بعد ثمانية أشهر، قبض عليه الايطاليون واعدموه.
وقد وصف لنا محمد اسد آخر لقاء مع السيد احمد الشريف فقال: ومرة اخرى وقفت امام إمام السنوسية ونظرت الى وجه ذلك المحارب القديم المرهق ، ومرة اخرى قبلت اليد التي حملت السيف طويلاً جداً حتى انها لم تعد تستطيع بعد ان تحمله.
- (بارك الله فيك، يابني.. لقد مضت سنة منذ ان التقينا اول مرة، وهذه السنة قد شهدت نهاية آمالنا ولكن الحمدلله على كل حال...).
والحق انها كانت سنة مفعمة بالهموم والاكدار بالنسبة الى احمد: لقد اصبحت الاخاديد حول فمه اكثر عمقاً، واصبح صوته اكثر انخفاضاً من أي وقت مضى.
لقد هوى النسر. انه يجلس منكمشاً على السجادة، وقد لف نفسه ببرنسه الابيض كأنما يطلب الدفء، ويحدق بصمت في الفراغ وهمس: (لو اننا استطعنا فقط ان ننقذ عمر المختار. لو اننا تمكنا من اقناعه بالهرب الى مصر بينما كان هناك متسع من الوقت...).
فقلت له : (لم يكن باستطاعة احد ان ينقذ سيدي عمر. انه لم يرد ان ينقذ. لقد فضل ان يموت اذا لم يستطع ان ينتصر. لقد عرفت ذلك عندما فارقته ياسيدي احمد ....).
إن احمد الشريف اهتم ببلاده بمجرد هجرته منها وكان على إتصال بالمجاهدين وقد حدثني السيد عبدالقادر بن علي أن احمد الشريف قام بكتابة رسائل الى قبائل برقة يحثهم فيها على السمع والطاعة للشيخ عمر المختار رحمهم الله.
ثانياً: الاسد يقع اسيراً:
ظل المختار في الجبل الاخضر يقاوم الطليان على الرغم من هذه الصعوبات الجسيمة التي كانت تحيط به وبرجاله وكانت من عادة عمر المختار الانتقال في كل سنة من مركز اقامته الى المراكز الاخرى التي يقيم فيها إخوانه المجاهدون لتفقد احوالهم، وكان إذا ذهب لهذا الغرض يستعد للطوارئ ، ويأخذ معه قوة كافية تحرسه من العدو الذي يتربص به الدوائر في كل زمان ومكان، ولما أراد الله أن يختم له بالشهادة ذهب في هذه السنة كعادته في نفر قليل يقدر بمائة فارس، ولكنه عاد فرد من هذا العدد ستين فارساً وذهب في اربعين فقط. ويوجد في الجبل الأخضر واد عظيم معترض بين المجاهدين اسمه وادي الجريب (بالتصغير) وهو صعب المسالك كثير الغابات، كان لابد من اجتيازه ، فمر به عمر المختار ومن معه ، وباتوا فيه ليلتين ، وعلمت بهذا ايطاليا بواسطة جواسيسها في كل مكان ، فأمرت بتطويق الوادي على عجل من جميع الجهات بعد أن جمعت كل ماعندها من قوة قريبة وبعيدة، فما شعر عمر المختار ومن معه إلا وهم وسط العدو؛ وقرر منازلة الاعداء وجهاً لوجه فأما أن يشق طريقاً يمكنه من النجاة أو يلقى ربه شهيداً في الميدان الذي ألف فيه مصارعة الأعداء، والتحمت المعركة داخل الوادي، وحصد رصاص المجاهدين عدداً كبيراً من الأعداء، وسقط الشهداء، وأصيب عمر المختار بجراح في يده، وأصيب فرسه بضربة قاتلة، وحصلت يده السليمة تحت الفرس فلم يتمكن من سحبها ، ولم تسعفه يده الجريحة وأصبح لسان حاله يقول:
متـــــــــى
الزفاف ياعروس الربيع
أسرت وماصحبي بعزل لدى الوغى
وكم من صدى صوتي ليوث الشرى فروا
وما أحد في الحرب يجهل سطوتي ولا
فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على أمرئ
يكون ولا يغني من القدر الحذر
ومن رام من أمر الاله وقايه
فليس له بر يقيه ولا بحر
والتفت المجاهد بن قويرش فرأى الموقف المحزن وصاح في إخوانه الذين شقوا الطريق للخروج من الحصار قائلاً: (الحاجة التي تنفع عقبت أي تخلفت) ، فعادوا لتخليص قائدهم ولكن رصاص الطليان حصد أغلبهم، وكان ابن قويرش اول من قتل وهو يحاول انقاذ الشيخ الجليل ، وهجم جنود الطليان على الاسد الجريح دون ان يعرفوا شخصيته في البداية، وتم القبض عليه وتعرف عليه احد الخونة، وجاء الكمندتور داود باتشي متصرف درنة ليتعرف على الاسير وبمثل سرعة البرق نقل عمر المختار الى ميناء سوسة محاطاً بعدد كبير من الضباط والجنود الايطاليين، وأخذت كافة الاحتياطات لحراسة جميع الطرق والمواقع القريبة لتأمين وصول المجاهد العظيم الى سوسة ومن ثم نقل فوراً الى بنغازي عن طريق البحر.
يقول غراسياني في مذكراته: في صباح يوم 11 سبتمبر 1931م وصل الخبر برقياً الى الحكومة من متصرفية الجبل هذا نصها: (بالقرب من (سلطنة) فرقة الفرسان (الصواري) قبضت على وطني وقع من على جواده اثناء المعركة وقد تعرف عليه عساكرنا بأنه عمر المختار ونظراً للخبر المهم ومن اجل التأكد والتحقق أمرت الحكومة متصرف الجبل الحكومندتور (الوجيه داود ياتشي) فجهزت طائرة خاصة لنقله الى (سلطنة) على الفور للتعرف على شخصية الاسير وتثبت هويته ان كان هو زعيم المجاهدين عمر المختار وتأكد متصرف الجبل من انه عمر المختار وسرى الخبر سريان البرق وصدرت الاوامر بنقله الى سلطنة ومنها الى سوسة تحت حراسة شديدة حيث وصلها عند السابعة عشر من مساء نفس اليوم سبتمر 1931م دون أي عائق ، او حادث اثناء الطريق من سلطنة الى سوسة مكث هناك في انتظار الطراد الحربي (اورسيني) الذي تحرك من بنغازي خصيصاً ليعود بالاسير الى بنغازي وفي اثناء الرحلة تحدث معه بعض السياسيين التابعين لادارتنا ووجهوا إليه الاسئلة، فكان يجيب بكل هدوء وبصوت ثابت وقوي دون أي تأثر بالموقف الذي هو فيه وفي يوم 12 سبتمر 1931م عند الساعة السابعة عشر وصل الطراد اورسيني الى ميناء بنغازي حاملاً معه الاسير عمر المختار...) وقال أيضاً هذا الرجل اسطورة الزمان الذي نجا آلاف المرات من الموت ومن الاسر واشتهر عند الجنود بالقداسة والاحترام لأنه الرأس المفكر والقلب النابض للثورة العربية (الاسلامية) في برقة وكذلك كان المنظم للقتال بصبر ومهارة فريدة لا مثيل لها سنين طويلة والآن وقع اسيراً في ايدينا.
وهذا الاعتراف من غراسياني الخسيس في كتابه بأن عمر المختار قاد المعارك سنين طويلة واعترف بانه محترم من اتباعه الى مكانة عالية جداً ثم بأنه الرأس المفكر والقلب النابض للجهاد الاسلامي المقدس في برقة ثم الصبر والمهارة التي لا مثيل لها فهذا اعتراف من الجنرال غراسياني خريج الكليات الحربية والاكاديمية العسكرية وله تجارب طويلة في حرب الاحتلال الى حرب العالمية الاولى وحروبه الصحراوية حتى لقبه بنو قومه بلقب اسد الصحراء والفضل ما شهدت به الاعداء.
ويقول الجنرال غراسياني عن عمر المختار ايضاً: (كان عمر المختار كرئيس عربي مؤمن بقضية وطنه وله تأثير كبير على اتباعه مثل الرؤساء الطرابلسيين يحاربون بكل صدق واخلاص اقول ذلك عن تجارب مرت بي اثناء الحروب الليبية وكان عمر المختار من المجاهدين الكبار لما له من مكانة مقدسة بين اتباعه ومحبيه، ان عمر المختار يختلف عن الآخرين فهو شيخ متدين بدون شك، قاسي وشديد التعصب للدين ورحيم عند المقدرة ذنبه الوحيد يكرهنا كثيراً وفي بعض الاوقات يسلط علينا لسانه ويعاملنا بغلظة ، مثل الجبليين كان دائماً مضاداً لنا ولسياستنا في كل الأحوال لا يلين ابداً ولا يهادن إلا اذا كان الموضوع في صالح الوطن العربي الليبي، ولم يخن ابداً مبادئه فهو دائماً موضع الاحترام رغم التصرفات التي تحدث منه في غير صالحنا ان خيانة موقعة (قصر بنقدين) ضيعت على عمر المختار كل الفرص التي يمكن للدولة الايطالية ان ترحمه فيها.
وقال غراسياني في مذكراته: (أما وصف عمر المختار فهو معتدل الجسم عريض المنكبين شعر رأسه ولحيته وشواربه بيضاء ناصعة، يتمتع بذكاء حاضر وحاد، كان مثقفاً ثقافة علمية دينية له طبع حاد ومندفع يتمتع بنزاهة خارقة لم يحسب للمادة أي حساب متصلب ومتعصب لدينه، واخيراً كان فقيراً لا يملك شيئاً من حطام الدنيا إلا حبه لدينه ووطنه رغم انه وصل الى أعلى الدرجات حتى اصبح ممثلاً كبيراً للسنوسية كلها) وهذا وصف دقيق يدل بوضوح على عظمة المختار وامكانياته الذاتية التي وهبه الله اياها فتقلد بسببها اكبر المناصب وخاض اكثر المعارك وصفه عدوه بصفات الورع والتدين ومثقف ثقافة دينية وعلمية وصفه بشدة المراس والصبر على الشدائد وهكذا ياأخي المسلم الكريم يصنع الاسلام من اتباعه.
ثالثاً: دخول المختار في سجن بنغازي:
وعندما وصل الاسير الى بنغازي لم يسمح لأي مراسل جريدة او مجلة بنشر اخبار او مقابلات وكان على الرصيف مئات من المشاهدين عند نزوله في الميناء ولم يتمكن أي شخص مهما كان مركزه ان يقترب من الموكب المحاط بالجنود المدججين بالسلاح ونقل فوق سيارة السجن تصحبه قوة مسلحة بالمدافع الرشاشة حيث اودع في زنزانة صغيرة خاصة منعزلة عن كافة السجناء السياسيين وتحت حراسة شديدة وجديدة ويقول مترجم كتاب برقة الهادئة الاستاذ ابراهيم سالم عامر كنت من الذين أسعدهم الحظ على ان يتكلموا مع بطل الجهاد عمر المختار اثناء قيامه في السجن فقد أوقفوا كل الاهالي المعتبرين في مراكز الامن والسجون وكان نصيبي في سجن بنغازي المركزي وعندماأتى بعمر المختار غيروا الحراس المحليين بحراس أريتريين والموظفين بالايطاليين من الحزب الفاشيستي وبعد ان اودعوه في الزنزانة كان هناك سرير من خشب وقماش وعلى الارض قطعة من السجاد البالي لأجل وقع الرجلين عليه فسحبها الشهيد بقرب الجدران وجلس عليها واستند على الجدران ومد رجليه الى الامام وعندما كان مدير السجن يتجول على زنزانات السجناء رأى الشهيد جالساً على الارض ولم يستطيع ان يساله لماذا هو جالس على الارض. ولأن المدير لايعرف العربية فناداني من بين السجناء السياسيين وطلب مني ان اترجم سؤاله فسألت الشهيد، فاجاب بصوت هادر كالأسد الهصور: قل له أنا اعرف اين اجلس لا يحمل هماً فهذا ليس من شأنه فترجمت الكلام فانصعق المدير واصفر وجهه وقال هيا ارجع الى مكانك بلهجة الامر غير ان قلبي كاد يطير من صدري فرحاً عندما سمعت هذه الاجابة القاطعة رحم الله عمر المختار كم كان عظيماً وهو قائم واعظم وهو اسير.
ويقول غراسياني الجنرال الايطالي السفاك الجلاد: (واثناء الرحلة من سوسة الى بنغازي أعطى لنا معلومات هامة عن كيفية سقوطه في الأسر والقبض عليه قائلاً عندما ضرب جواده وسقط على الارض فجرحت يده اليمنى مما سببت له بعض التشقق في عظام ذراعه ورغم هذا الآلم حاول جر نفسه ليبتعد ويختفي في احد الشجرات التي في الغابة ولكن فرقة الفرسان حالت بينه وبين غرضه وقد تعرف عليه احد الصواري من فرقة الفرسان وسرعان ما أحاطت به قوتنا وقد تأسف كثيراً اثناء حديثه بأن رفاقه حاولوا انقاذه بكل وسيلة وقد ضاع منهم بعض الرفاق ولكن الكثرة حالت دون بغيتهم كذلك قلة الذخيرة لها عاملها الاصلي في عدم انقاذي واثبت كذلك ان وقوعه في الاسر لا يعني توقف الثورة والجهاد بل هناك اربعة من القادة يحلون محلي وهم الشيخ حمد بوموسى، عثمان الشامي وعبدالحميد العبار ويوسف بورحيل المسماري وهذا الاخير هو أقربهم إليه لانه كان دائماً بجانبه ، ولقد بالغ كثيراً بالنسبة لعدد الجنود فقد قال ان دوره يتكون من 500 مقاتل عادي، 400 فارس. واستطرد قائلاً شارحاً ان وقوعه في الأسر لا يؤثر ولا يغير سير القتال او وضع الدور بل سيزداد قساوة ثم اضاف اني احارب الايطاليين الفاشيستيين لا لأني اكره الشعب الايطالي ولكن ديني أمرني بالجهاد فيكم لأنكم أعداء الوطن.
قلت ما أعلم احد من المسلمين الصادقين يجد في نفسه وداً للنصارى على العموم فكيف بالذين يقولون الله ثالث ثلاثة ويقولون عيسى ابن الله، لكن قول غراسياني ان عمر المختار لا يبغض الشعب الايطالي فهذا ادعاء منه واما قول عمر المختار ديني امرني بقتالكم فهذا الذي يليق بحاله وبغض المسلم للنصارى الكفرة يدينون بها خالقهم ورازقهم ، ومالكهم ومتولي أمورهم سبحانه وتعالى عما يقولون الظالمون علواً كبيراً.
قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة ومامن إله إلا اله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب إليم ` أفلا يتوبون الى الله ويستغفورنه والله غفور رحيم}. (سورة المائدة ، الآيات:72،73،74).
وقال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدّ تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هداً ان دعو للرحمن ولداً} ( سورة مريم: الآيات 88 الى 91).
فالآيات السابقة الواضحة البينة تمنع العالم الرباني والشيخ الجليل ان يقول بأنه لا يبغض اعداء الله حمات الصليب.
واستطرد غراسياني في كتابه برقة الهادئة قال : (لقد قال عمر المختار كلمات تاريخية : إن وقوعي في الأسر تأكيد بأمر الله وسابق في علمه سبحانه وتعالى والآن أنا بين يدي الحكومة الايطالية الفاشيستية وأصبحت أسيراً عندها والله يفعل بي مايشاء. أخذتموني أسيراً ولكم القدرة أن تفعلوا بي ماتشاؤون والذي اريد أن أقوله بكل تأكيد لم أفكر في يوم من الايام أن أسلم نفسي لكم مهما كان الضغط شديداً ولكن مشيئة الله ارادت هذا فلا راد لقضاء الله).
وهذه بعينها عقيدة القضاء والقدر وهي من اركان الايمان التي جاء بها الاسلام وقد تجسدت في حياة عمر المختار فهذه الآيات الكريمة تبين ماوقع للانسان قد كتب فعليه ألاّ يحزن ولاييأس لان الأمور بقضائه وقدره قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل ان نبرأها ان ذلك على الله يسير لكي لاتأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لايحب كل مختال فخور}( سورة الحديد، آية 22).
وقد تربى المختار رحمه الله تعالى على الايات القرآنية واحاديث المصطفى e فعن ابن عباس عن رسول الله e : واعلم ان الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الاقلام وجفت الصحف.
وهذه العقيدة الصحيحة كانت مستقرة في قلب الشيخ الجليل رحمه الله وتحولت الى عمل في حياته جسدته مواقف عقدية ومشاهد بطولية ولا نكون مخطيئن ان قلنا كانت مواقفه وسيرته العطرة تدل على أنه رجل عقيدة.
متـــــــــى
الزفاف ياعروس الربيع
رابعاً: من مواقف العزة داخل السجن:
اراد الكمندتور رينسي (السكرتير العام لحكومة برقة) في أمسية الرابع عشر من سبتمبر أن يقحم الشارف الغرياني في موقف حرج مع عمر المختار وهو في السجن وابلغ الشارف الغرياني بأن المختار طلب مقابلتك والحكومة الايطالية لاترى مانعاً من تلبية طلبه، وذهب الشارف الغرياني الى السجن لمقابلة الشيخ الجليل وعندما ألتقيا خيم السكوت الرهيب ولم يتكلم المختار فقال الشارف الغرياني هذا المثل الشعبي مخاطباً به السيد عمر (الحاصلة سقيمة والصقر مايتخبل) وماكاد المختار يسمع المثل المذكور حتى رفع رأسه ونظر بحدة الى الشارف الغرياني وقال له: الحمد لله الذي لايحمد على مكروه سواه وسكت هنيئة ثم اردف قائلاً: رب هب لي من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، أنني لم أكن في حاجة الى وعظ او تلقين، أنني أومن بالقضاء والقدر، وأعرف فضائل الصبر والتسليم لإرادة الله ، أنني متعب من الجلوس هنا فقل لي ماذا تريد، وهنا أيقن الشارف الغرياني بأنه غرّر به فزاد تأثره وقال للمختار: ماوددت أن أراك هكذا ولقد أرغمت نفسي للمجيء بناءً على طلبك... فقال الشيخ الجليل، والجبل الشامخ أنا لم أطلبك ولن أطلب أحداً ولا حاجة لي عند أحد، ووقف دون أن ينتظر جواباً من الشارف الغرياني، وعاد الاخير الى منزله وهو مهموم حزين وقد صرّح بأنه شعر في ذلك اليوم بشيء ثقيل في نفسه ما شعر به طيلة حياته، ولما سئل الشارف الغرياني عن نوع الثياب التي كان يرتديها عمر المختار أهي ثياب السجن ام ثيابه التي وقع بها في الاسر كان جوابه هو البيتان الآتيان مستشهداً بهما:
عليه ثياب لو تقاس جميعها
بفلسٍ لكان الفلس منهن اكثرا
وفيهن نفس لو تقاس ببعضها
نفوس الورى كانت أجل وأكبرا
خامساً: عمر المختار أمام غراسياني السفاح:
اراد المولى عز وجل لحكمة يريدها أن يقف البطل الأشم والطود الشامخ الذي حير ايطاليا الكافرة النصرانية الكاثوليكية واشاع الرعب في قلوب جيوشها، أمام الرجل التافه الحقير المدعو غراسياني هذا حقير النفسية ، وضيع الاخلاق ، من أولئك الذين يرتفعون في كل عهد، ويأكلون على كل مائدة وكان من قادة الجيش الايطالي فلما جاء موسوليني ذلك الطبل الاجوف، وادعّى الزعامة على ايطاليا وحشر نفسه حشراً في صفوف الزعامات العالمية، كان غراسياني اول من صفق وقرع الطبول للزعامة الجديدة، وصار فاشيستياً أكثر من الفاشيستيين أنفسهم، امام هذا الرجل الحقير الذليل الخسيس التافة وقف البطل الأشم والطود المنيف شيخنا عمر المختار رحمه الله وتستطيع أن تفكر في هذا الموقف وتطيل التفكير، فإن النفوس الحقيرة الوضيعة ، لاتعرف الشرف، ولا الرجولة ولا الكرامة ولا الاخلاق إذا خاصمت، فما يكاد عدوها يقع في يدها حتى تفعل به الافاعيل ، وتصب عليه أصنافاً وألوناً من العذاب!! يدفعها الى ذلك ، شدة إحساسها بحقدها وعظمة عدوها، وشدة شعورها بنقصها وكمال اسيرها.
من اجل ذلك دفعت الشماتة هذا الرجل الحقير أن يقطع رحلته الى باريس وان يعود فوراً الى بنغازي، وأن يدعوا المحكمة الطائرة الى الانعقاد ودفعت غريزة الشماته غراسياني أن يستدعي البطل في صبيحة اليوم نفسه، وقبل المحاكمة بقليل.
يقول غراسياني في مذكراته : (وعندما حضر امام مدخل مكتبي تهيأ لي أني ارى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم اثناء قيامي بالحروب الصحراوية، يداه مكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة وجهه مضغوطاً لأنه كان مغطياً رأسه (بالجرد) ويجر نفسه بصعوبة نظراً لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالاجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال منظره وهيبته رغم إنه يشعر بمرارة الاسر. هاهو واقف أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوت هادئ، وواضح وكان ترجماني المخلص النقيب (كابتن) خليفة خالد الغرياني الذي احضرته معي خصيصاً من طرابلس ووجهت له اول سؤال : لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشيستية؟
ج- لأن ديني يأمرني بذلك.
س- هل كنت تأمل في يوم من الايام أن تطردنا من برقة بامكانياتك الضئيلة وعددك القليل.
ج- لا هذا كان مستحيلاً.
س- إذاً ماالذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟
ج- لا شيء إلا طردكم من بلادي لأنكم مغتصبون ، أما الحرب فهو فرض علينا وماالنصر إلا من عند الله.
س- لكن كتابك يقول: {ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة} بمعنى لاتجلبوا الضرر لأنفسكم ولا لغيركم من الناس، القرآن يقول هذا.
ج- نعم.
س- إذاً لماذا تحارب؟
ج- كما قلت من أجل وطني وديني.
قال غراسياني : فما كان مني إلا أن قلت له أنت تحارب من أجل السنوسية تلك المنظمة التي كانت السبب في تدمير الشعب والبلاد على السواء وفي الوقت نفسه كانت المنظمة تستغل أموال الناس بدون حق هذا هو الحافز الذي جعلك تحاربنا لا الدين والوطن كما قلت .
عمر المختار: نظر اليّ نظرة حادة كالوحش المفترس: لست على حق فيما تقول ولك أن تظن ماظننت ولكن الحقيقة الساطعة التي لا غبار عليها أنني أحاربكم من أجل ديني ووطني لا كما قلت بان عليّ وجهه بعد أن زال الجرد من على رأسه واستطردت في توجيه الاسئلة إليه:
س- لماذا قطعت المهادنة السارية وامرت بالهجوم على (قصر بن قدين) .
ج- لأنه منذ شهر ارسلت الى المارشال (بادوليو) ولم يجيبني عنها وبقيت بدون رد حتى الآن.
يقول الجنرال لا أنت أردت قطع المهادنة لحاجة في نفسك وهاك الدليل وقرأت له البيان الذي نشره فوق الجرائد المصرية بتوقيعه؟ولم يرد في بادئ الأمر وحنى رأسه مفكراً ثم قال:
عمر المختار - نعم نشرت البيان في مصر بتوقيعي ولكن ليس هذا هو الدليل وإنما هو عدم تجاوبكم معنا في تنفيذ شروط الهدنة، ولم يزد شيئاً بل حنى راسه اعياء.
س- هل أمرت بقتل الطيارين هوبر وبياتي.
ج- نعم: كل الاخطاء والتهم في الواقع هي مسؤولية الرئيس والحرب هي الحرب.
الجنرال : قلت له هذا صحيح لو كان حرباً حقيقية لا قتل وسلب مثل حروبك.
عمر المختار: هذا رأي، فيه إعادة نظر وانت الذي تقول هذا الكلام ولازلت أكرر لك الحرب هي الحرب.
الجنرال: بموقفك في موقعة (قصربن قدين) ضيعت كل أمل وكل حق في الحصول على رحمة وعفو الحكومة الايطالية الفاشيستية.
عمر المختار: مكتوب (كلمة لتفسير معنى القضاء والقدر في العقيدة الاسلامية) وعلى كل عندما وقع جوادي وألقي القبض عليّ كانت معي ست طلقات وكان في استطاعتي أن أدافع عن نفسي وأقتل كل من يقترب مني حتى الذي قبض عليّ وهو أحد الجنود من فرقة الصواري المتطوعين معكم وكان في إمكاني كذلك أن أقتل نفسي.
الجنرال: ولماذا لم تفعل؟
عمر المختار: لأنه كان مقدراً أن يكون.
الجنرال: ولكن قد تحقق فيما بعد إلقاء القبض عليه كانت بندقيته فوق ظهره وبسقوطه على الأرض لم يستطيع نزعها وبالتالي لم يتمكن من استعمالها بسرعة وكذلك من أثر الجروح والكسر الذي بيده اليمنى وهذا في الحقيقة جدير بالاعتبار والتقدير.
وهذا اعتراف من السفاح إبان تجبره وطغيانه ونشوة انتصاره يعترف بقوة عمر المختار ويقدر فيه بطولته وجهاده التي لم يرلها مثيل وقال شوقي رحمه الله في رثاء عمر المختار مايجسد هذا الموقف:
جرح يصيح على المدى وضحيه
تلتمس الحرية الحمراء
عمر المختار: كما ترى أنا طاعن في السن على الاقل اتركني بأن أجلس .
الجنرال: أشرت له فجلس على كرسيه أمام مكتبي وفي هذه الاثناء ظهر لي وجهه بوضوح وقد زالت رهبة الموقف وقد تأملته جانبياً فرأيت بعض الاحمرار في وجهه وبدأت أفكر كيف كان يحكم ويقود المعارك. وبينما هو يتكلم كانت نظراته ثابتة الى الامام وصوته نابع من أعماقه ويخرج من بين شفتيه بكلمات ثابتة وبكل هدوء وفكرت ثانية هذا هو القديس، لان كلامه عن الدين والجهاد يدل بكل تأكيد أنه مؤمن صادق يتكلم عن الدين بكل حماس وتأثر . ثم قلت له فجأة: بمالك من نفوذ وجاه كم يوم يمكنك أن تأمر العصاة (يعني المجاهدين) بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا اسلحتنا وينهوا الحرب.
عمر المختار: مجيباً أبداً كأسير لايمكنني أن أعمل أي شيء واستطرد قائلاً: وبدون جدوى نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الآخر ولانسلّم أو نلقى السلاح وأنا هنا لم يسبق لي أن استسلمت هنا على ماأظن حقيقي وثابت عندكم.
الجنرال: قلت له وانا متماسك يمكن ذلك لو تم تعارفنا في وقت سابق والخبرة طويلة التي أخذتها عليكم لكان علينا ان نصل الى احسن حال في سبيل تهدئة البلاد وازدهارها.
(عمر المختار) : رفع حاجيبه بكل عمق وبصوت جهوري، وثابت قال: ولم لا يكن اليوم هو ذلك اليوم الذي تقول عنه.
الجنرال: فأجبته: لقد فات الأوان.
وعند هذا الحد رأيت ان نوقف المحادثة فيما بيننا ربما عمر المختار فكر في تلك اللحظة أن الحكومة الايطالية ستبعثه الى الجبل من أجل أن يسلّم أتباعه السلاح ويخضعوا الى سلطتنا ولكن لا : لقد قالها منذ لحظات بأنهم يموتون جميعاً ولن يستسلموا وعليه لقد فات الأوان وقلتها بنفسك لا فائدة من المحاولة إن الامل الذي لاح منذ قليل قد انهار ولم يعد . ثم قلت له: هل تعرف هذه وعرضت عليه نظاراته في إطارها الفضي.
متـــــــــى
الزفاف ياعروس الربيع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)