اختلف العلماء في نشأة اللغة قال بعضهم في البدء كانت الإشارة ، ثم تعلم الإنسان بعد ذلك أصوات الحيوانات والطيور ، فأصبح يشير إلى الطائر أو العصفور بحسب صوته ، ثم اصطلح جماعة من الناس على بعض الأصوات واستخدموها فيما بينهم ، ثم اتسع المحيط ، وهكذا....
والحقيقة أن اللغة أمر محير وما ترتاح إليه النفس أن اللغة منحة من الله تعالى للإنسان قال تعالى" الرحمن علم القرآن *خلق الإنسان *علمه البيان"وقال تعالى" وعلم آدم الأسماء كلها " فسبحان الله العلي القدير.
المهم أن اللغة هي ما ينطقه الإنسان بطريقة معينة ليعبر عن مزاجه ورغبته وحاجته . وهي تتطور بتطور الإنسان وتنحط بانحطاطه ، وتقوى أحيانا وتضغف أحيانا .
والأدب هو التعبير الجميل عن الشعور أو الإحساس الذي ينتاب الإنسان من حين لآخر ، فهو تلك الدفعة التعبيرية التي تصورها الكلمات التي تقذفها أقلام الأدباء شعراء كانوا أو كتابا ، أو هو تلك الخطوط التي ترسمها ريشة الرسام ، أو هو الأنفاس التي تخرج من حنجرة الملحن الحذق أو الفنان الطرب ، فالأدب موهبة اختص الله تعالى بها بعض خلقه ؛ ليدرك الآخرون قدرته البالغة ، وحكمته في الأخذ والإعطاء.
وقد كان العرب – ويؤسفني أن أقول كانوا- أهل فصاحة وبلاغة وبيان ، أقاموا للكلمة سوقا ، وعرضوها في معارضهم وروجوا لها ترويجا لم تلقه في أي مكان آخر، عرفوا قيمة الكلمة فأولوها اهتماما متناهي النظير ، بل إنهم جعلوا جرح الكلام كجرح الحسام ، وتغنو وفخروا وتفاخروا بمقدرتهم على الكلام البليغ ، بل إن القبيلة التي يظهر فيها شاعر أو أديب كانت تقيم الأفراح ، وتولم الولائم ، وتذبح الذبائح ، كما ذكر ابن رشيق القيرواني في كتابه العمدة .
فبالكلمة تعرف الرجال ، وبالكلمة يحسم القتال ، فهي دائما تسبق الفعال ، وتفوق حدتها النصال ، هي في الحرب سيف قاطع ، وفي السلم لحن بارع ، وفي الليل نجم ساطع ، وفي عالم الحب والشعور تصل الكلمات بين القلوب ، تنتقل خلسة فتنفتح لها مغاليق القلوب ، وتنساب بين الضلوع كما تنساب المياه بين الشقوق ، فلا تدري أنها تسري حتى تراها قد عمت السطح بعد أن غمرت القيعان ، فترى الحبيب يبدي شوقه بالكلمات ، ويرثي حظه بالكلمات ، ويقف حائرا بين بين وذلك أيضا بالكلمات ، وكأنما الكلمة هي السر الذي لاتنفتح القلوب إلا به ، ولا تلين إلا له .
وما الشعر إلا كلمات لكنها صنعت في معين الشاعر الشاعر ليست هذه الكلمات كما يظن بعض الناس وليدة اللحظة التي قيلت فيها ، وإنما هي طفل ولد منذ زمن طويل غذي وربي في نفس الشاعر رضع الأحزان ممزوجة بالأفراح ، نما ونما ثم خرج إلى حيز الوجود جديدا قديما ، وكأنه ولد مرتين ، فكل كلمة تقع عينك عليها لها حمل ومخاض ، ولها قصة دامية مع الشاعر ، حتى إنك تستطيع من خلال الكلمات أن تقرأ نفس الأديب ، فهي تصور أحلامه وآماله وآلامه ، ترسم ماضيه المكلوم ، وتصف غده المشئوم ، لا تعرف قيود الزمان أوالمكان ، تصف ماتريد ، وتقصد الهدف دون أن تحيد ، ألم أقل لك إن الكلمة هي سر الأسرار ؟!
فالعربي يقدر قيمة الكلمة لأنه ذاق حلاوتها ، أو تلظى نارها ،وقد تفنن أجدادنا العرب في رسم مشاعرهم بالمداد ، فتجد العربي يسجد عند سماع آية من القرآن ، وترى الشعراء يتبارون في التصوير والتعبير ، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى دور الكلمة ، فالكلمة تسحر الألباب ، وتجذب العقول والقلوب ، فقال صلى الله عليه وسلم " إن من البيان لسحرا" تسطيع من خلال الكلمات أن تصنع ما عجزت عنه السيوف والأموال ، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فعن أم سلمة زوج النبي أنه سمع خصومة بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضًا أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ ، أَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ وَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَدَعْهَا " وقد أشار إلى ذلك أيضا ابن الرومي حين قال:
فـي زُخْرُفِ القولِ تزيينٌ لباطِلِهِ والحقُّ قَدْ يعتـريه سوءُ تعبيرِ.
تقول هذا مجــاج النحل تمدحه وإن ذممت فقل قـيء الزنابيرِ.
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما حسن البيان يُرِي الظلماء كالنورِ.
ولذلك نستطيع أن نعرف من خلال الأدب حياة أي عصر تأخرها أو تقدمها ؛ لأن الأدب يعكس ثقافة العصر ، ونقرأ كثيرا في كتب الأدب مقولة عصور الانحطاط ، يعنون عصور انحطاط الأدب ، ولو تأملنا جليا لوجدنا أن هذه العصور نفسها هي هي عصور الانحطاط السياسي والاقتصادي ، عصور تدخل فيها العدو في شئون البلاد.
ولقد رأيت أنه من الواجب علي أن أحفز أحبتي لتعلم اللغة وتثقف فنونها ؛ حتى يستطيعوا تذوق القرآن الكريم الذي أدعو أن يقبلني الله تعالى خادما له ولكتابه ، وأن يرزقني الفهم والسداد.
وقد بدأت باللغة لأنها الأصل ، أو هي المادة الخام ، ثم بالأدب لأنه استخدام خاص للغة ، ثم يأتي القرآن على رأس ذلك كله لأنه جمع فأوعى ، يعلو ولا يعلى عليه ، أعلاه مثمر ، وأسفله مغدق ، فيه قوة التعبير ، وجمال التصوير ، فهو النموذج الأعلى لمن أراد بلاغة وبيانا .
وسأسوق إليك بعض الشواهد التي تدل على أن العبقرية اللغوية تتساوى مع العبقرية الحربية ، فالرسول صلى الله عليه وسلم أفصح العرب ، وأقدرهم بلاغة وبيانا ، يقول صلى الله عليه وسلم:" الاستئذان ثلاث ، فإن أذن لك ، وإلا فارجع"نلاحظ في هذا الحديث النبوي الشريف قمة البلاغة ، فهو لم يحتو على استعارة ولا تشبيه ولا كناية ، بل جاء في أسلوب خبري ، أراد منه النبي صلى الله عليه وسلم الإقناع والامتاع ، فلقد اعتمد النبي صلى الله عليه وسلم على الإيجاز ، والإيجاز- كما يرى النقاد – هو البلاغة ، فقد اعتمد النبي صلى الله عليه وسلم على الإيجاز ، وهو كما نعلم التعبير عن المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة ، فأصل الكلام ( الاستئذان ثلاث مرات فإن أَذِنَ مَنْ تستأذنه لك فادخل وإن لم يأذن لك فارجع) فنلاحظ أنه صلى الله عليه وسلم حذف المعدود ( مرات) وذلك لدلالة السياق عليه ،وحذف الفاعل ،والتقدير فإن أذن لك من تستـأذنه، وحذف جواب الشرط في الجملة الشرطية الأولى ، وحذف فعل الشرط في الجملة الشرطية الثانية ، وسأوضح ذلك ولكن أود أن أشير أن هذا الحذف من سنن العرب المعروفة ، قال الشاعر:
فطلقها فلست لها بكفء وإلا يعل مفرقك الحسام.
يقول له أنت لست كفئا لها لذا وجب عليك أن تطلقها وإن لم تطلقها فسيعلو السيف رأسك. فنلاحظ أن الشاعر حذف فعل الشرط وهو ( وإلا تطلقها) .
ويلجأ الإنسان للإيجاز للتعبير عن المعنى الشاغل له بأقل جهد ممكن وفي أقل وقت ممكن.وحتى يجذب انتباه السامع ولينبه على أهمية المذكور ، ولتذهب النفس في المحذوف كل مذهب ، وقد اعتمد الحبيب محمد صلى الله عليه سلم على الإيجاز لبيان خطورة أمر الاستئذان ، لأن الأمر يتعلق بحفظ العورات والأعراض ،وقد بنى الفعل لغير المعلوم لعدم أهمية ذكره ، فالإنسان يحترم كل من يستأذنه عظيما كان أو حقيرا ، قويا كان أو ضعيفا ،مسلما أو غير مسلم ، رجلا أو امرأة ، وحذف الجواب هنا يزيد المعنى وضوحا لأن اللبيب يدرك بالمقدمات النتائج ، ويغنيه التلميح عن التصريح ،وكما يقولون : وكل لبيب بالإشارة يفهم.
وحذف الجواب في الجملة الشرطية الأولى ناسبه حذف الفعل في الجملة الثانية ، لتناسب الجمل ، فنلاحظ أن عدد حروف الجملة الأولى متساو مع عدد أحرف الجملة الثانية.وهذا التناسب يريح النفس ويجعلها تتقبل الأمر بكل ترحيب واهتمام.
ومن الأمثلة القرآنية التي تدل على أهمية الكلمة ونظمها في أداء المعنى قوله تعالى " واشتعل الرأس شيبا " فنجد أن التقديم والتأخير هنا أفاد معنى العموم والشمول ، كأن سيدنا زكريا أراد أن يقول : إن الشيب لحق شعري كله فلم يترك فيه شعرة واحدة وهذا كناية عن كبر السن ، فأصل الكلام قبل التقديم والتأخير (استعل شيب الرأس ) فلما تقدم المضاف إليه وتأخر الفاعل ( المضاف) أفاد معنى العموم ، ولتقريب ذلك إلى الأذهان نقول هناك فرق بين قولنا (اشتعلت النار في الدار ) وقولنا ( اشتعلت الدار نارا).
وكذلك قوله تبارك وتعالى " وجعلوا لله شركاء الجن " فأصل الكلام في غير القرآن ( وجعلوا الجن شركاء لله ) فنلاحظ أن التقديم والتأخير أفاد معنى النفي التام ، كأن الله تعالى أراد أن ينفي كل شريك له ولو كان من الجن ، أما لوجاءت بدون تقديم و تأخير لنفت شركة الجن فقط دون أن تنفي شركة أحد آخر.
أظنك الآن أدركت جمال التعبير وتأثيره في خدمة المعاني ، ووقفت على روعة اللغة وجمالها ورقتها ودقتها في التعبير.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)