العجّاج

فهمت قوله: جعلني الله فداءه، لا يذهب به إلى النِّفاق، وبعد ابن آدم من الوفاق، وهذه غريزةٌ خصَّ بها الشيخ دون غيره، وتعايش العالم بخداع، وأضحوا من الكذب في إبداع. لو قالت شيرين الملكة لكسرى: جعلني الله فداءك في إقامة أو سرى، لخالبته في ذلك ونافقته، وإن راقته بالعطل ووافقته، على أنَّه أخذها من حالٍ دنيَّة، فجعلها في النُّعمى السَّنَّية، وعتبه في ذلك الاحبَّاء، وجرت لهم في ذلك قصصٌ وأنباءٌ، وقيل له، فيما ذكر، والله معالم بمن جدب أو شكر: كيف تطيب نفس الملك لهذه المومس، وهي الوالجة في المغمِّس؟ فضرب لهم المثل بالقدح، وإذا حظيت الغانية فليست بالمفتقرة إلى الصَّدح، جعل في الإناء الشَّعر والدم، وقال للحاضر ولا ندم: أتجيب نفسك لشرب ما فيه؟ وإنَّما يجنح إلى تلافيه. إنَّها لا تطيب، وهي بالأنجاس قطيب. فأراق ذلك الشيء وغسله، وهذَّب وعاءه ثمَّ عسله، وجعل فيه من بعد مداما، وعرضها على النَّدامى، فكلّهم بهش أن يشرب، ومن يعاف العاتقة والغرب؟ فقال: هذا مثل شيرين، فلا تكونوا في السَّفه مسيرين. كم من شبل نافق أسدا، وأضمرا له غلاًّ وحسداً؟ ولبوءةٍ تداجي هرماساً، تنبذ إليه المقة وتبغض له لماساً؟ وضيغمٍ نقم على فرهود، وودَّ لو دفنه بالوهود؟ والفرهود ولد الأسد بلغة أسد شنوءة، وهو، آنس الله الإفليم بقربه، أجلُّ من أن يشرح له مثل ذلك، وإنَّما أفرق من وقوع هذه الرِّسالة في يد غلامٍ مترعرعٍ، ليس إلى الفهم بمتسرِّع، فتستعجم عليه اللَّفظة، فيظلُّ معها في مثل القيد، لا يقدر على العجل ولا الرُّويد. وكم خالبت الذِّئاب السَّلق، وفي الضّمائر تُكنُّ الفلق أي الدَّواهي، ومنه قول خلفٍ: موت الإمام فلقةٌ من الفلق والسَّلق، جمع سلقةٍ: وهي أنثى الذئب. وملكٍ سانى ملكةً، ثمَّ صنعت له مهلكةً؟؟! يقول القائل: بأبي أنت، جاد عملك وأتقنت!ولو قدر لبتَّ الودج، وإنَّما جامل وسدج. ولعل بعض العتارف يلفظ إلى البائضة حبَّة البرِّ، ويأنس بها في حرٍّ وقرّ، وفي فؤاده من الضِّغن أعاجيب، وتكثر وتقلُّ المناجيب، والمناجيب ها هنا تحتمل أمرين: أحدهما من النَّجابة، والآخر من قولهم: مناجيب أي ضعافٌ، من قول الهذليّ:


بعثته في سواد اللَّيل يرقبني
إذ آثر النَّوم والدِّفء المناجيب والمعنى: أنَّ المناجيب من النَّجابة تقلُّ، والمناجيب من الوهن تكثر. ولعلّ ذلك الصّاقع يرقب لأمّ الكيكة حماماً، ولا يرقب لها ذماماً. يقول في النّفس المتحدِّثة: ليت الذِّابح بكرَّ على المنقضة، فإنها عين المبغضة. أو يقول: لو أنِّي جعلت في قدرٍ، أو في بعض الوطس فلحقت بالهدر، لتزوَّجت هذه من الدِّيكة شابَّاً مقتبلاً، يحسن لها حبَّاً قبلاً.
وأنا أذكره بالكلمة العارضة، إذ كان قد بدأ بالإيناس، وترك مكايد النّاس: ألا يعجب من قول العرب: فداءٍ لك، بالكسر والتنوين كما قال الرّاجز:


ويهاً فداءٍ لك يا فضاله
أجرَّه الرُّمح، ولا تباله ويروى تهاله. وذكر أحمد بن عبيد بن ناصحٍ، وهو المعروف بأبي عصيدة، أنَّ قولهم فداءٍ لك بالكسر، إذا كان لها مرافع لم يجز فيها الكسر والتَّنوين. ولا ريب أنَّه يحكي ذلك عن العلماء الكوفييِّن. وعينَّنه في قول النّابغة:


مهِّلاً فداءٍ لك الأقوام كلّهم
وما أثمِّر من مالٍ ومن ولد فأمّا البصريّون فقد رووا في هذا البيت: فداءٌ لك. وكيف يقول الخليل المخلص، وهو عن الهجران متقلِّص: إنَّ حنينه حنين واله من النُّوق، وهي الذّاهلة إن حمل عليها بعض الوسوق، وإنَّما تسجع ثلاثاً أو أربعاً، ثمَّ يكون سلوُّها متبعاً؟ فأما الحمامة الهاتفة فقد رزقها الباريء صيتاً شائعاً، وظلَّ وصفها بالأسف ذائعاً، تنهض إلى التقاط حبٍّ، وتعود إلى جوز لها ذات أب، فإن هي صادفته أكيل بازٍ أو سوذانق، ليس من أبصر اثره بالآنق غدا به ظفر شاهين، وهي، البائسة، من اللاَّهين، فما هي إلا مثل الحيوان، تملُّ حالها في أقصر أوان.
وقد زعم زاعمٌ، لا يصدَّق، أنَّ الحمائم في هذا العصر، يبكن مقعداً هلك في عهد نوحٍ، أبرح له البارح أم رمي بالسُّنوح، وإنَّ دوامها على ذلك لدليل الوفاء، وما العوض عن خليل الصّفاء؟ لا عوض ولا نائب إلاَّ فيه، وكيف يعتب الزَّمن على تجافيه؟ وإنَّما حشي بشرٍّ وغدر، وكتب له العزُّ في القدر. وأمّا الظَّبية فإنّها لا توصف بحنين، ولكن تبتقل بلبِّ منين. ومن لها باليانع من الأراك، ولا تقول لفارس الخيل الشَّازبة: دراك ومن كان وجده يعدل عن الخلد، فإنّه إذا جنب إلى الولد، فسوف تذره المدد ناسياً، كأنَّه ما جزع آسياً... وما أقلَّ صدق الألاّف، ولو بيعوا من الذَّهب،لا الورق، بآلافٍ:


وليس خليلي بالملول، ولا الذّي
إذا غبت عنه، باعني بخليل وأحسب كثيِّراً تفوَّه بهذه المقالة على غرَّة، وما عرف مكان الشِّرِّة، فكيف يقدر على إخاء الملك، أم كيف يرتفع إلى الفلك؟ وأمّا ما ذكره من حالى، غطِّي شخصه أن يلحظ بنواظر الغير، ومتِّع من مالٍ بحير أي كثير، قال الرَّاجز:


يا ربنَّا من سرَّه أن يكبرا
فسق له ياربِّ مالاً حيرا فطالما أعطي الوثن سعوداً، فصار حضوره للجهلة موعوداً! فإن سررت بالباطل، فشهرت باتِّخاذ النياطل، وإنَّ الصابر مأجورٌ محمود، ولا ريب أن سيقدر لمن ظعن شربٌ مثمود. وأحلف كيمين امرىء القيس لمَّا رغب في مقامه عند الموموقة، ولم يفرق من الرامقة ولا المرموقة، فقال:


فقلت: يمين الله، أبرح قاعداً
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي والأخرى التي أقسم بها زهيرٌ، إذ عصفت بالحرب القائمة هير، أعني قوله:


فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجالٌ بنوه، من قريشٍ وجرهم يميناً لنعم السِّيدِّان وجدتمأ
على كلِّ حالٍ من سحيلٍ ومبرم وبالحذَّاء التي نطق بها ساعدة، والمهجة إلى ملكها صاعدةٌ، فقال:


حلف أمرىٍء برٍّ سرفت يمينه
ولكلِّ من ساس الأمور مجرّب وأولي مع ذلك أليَّة الفرزدق لمَّا رهب وقوع انتقام، فاغتنم ما بين الكعبة والمقام، ووصف ما صنع فقال:


ألم ترني عاهدت ربِّي وإننّي
لبين رتاجٍ قائماً ومقام على حلفةٍ، لا أشتم الدّهر مسلماً
ولا خارجاً من فيِّ زور كلام إنِّي لمكذوب عليه كما كذبت العرب على الغول، وإنَّها عمَّا يؤثر لفي شغول، وكما تقوَّلت الأمثال السائرة على الضَّبِّ وله بالكلدة إرباب الصَّبِّ. وكما تكلَّمت على لسان الضِّبع وهي خرساء، ما أطلق لسانها الوضح ولا المساء. يظنُّ أنَّني من أهل العلم، وما أنا له بالصاحب ولا الخلم،وتلك لعمري بليَّةٌ، تفتقد معها الجليِّة. والعلوم تفتقر إلى مراسٍ، ودارسٍ للكتب أخي دراس.