مدخل:
أشكل على كثير من العلماء وطلبة العلم ما يسمى بـ( الذهب البيض ) ، فبعضهم لا يعده ذهباً حقيقياً، و من ثمّ لا يطبِّقون عليه أحكام الذهب ، وآخرون يعدونه ذهباً حقيقة، ويُجرُون عليه أحكامه، وبين هؤلاء وهؤلاء توسط آخرون.
ومن يستمع إلى فتاوي الفقهاء المعاصرين، وفي وسائل الإعلام ، يقف على مدى الحاجة إلى بيان هذه المسألة ، فمرة يجعلونه ذهباً، ومرة يمنعون هذا، ومرة يتوقفون ....

سبب الإشكال:
وسبب الإشكال هاهنا هو مقدار المعادن الدخيلة على الذهب ، التي تخلط معه لينتج ما يسمى بالذهب الأبيض ، فالأولون يذهبون إلى أن الذهب الخالص فيه قليل جداً، بحيث لا يخلص منه شيء لو أُريد استخلاصه ، والآخرون يرفضون هذا الافتراض ، ويرون أن الذهب الأبيض يحوي كمية لا بأس بها من الذهب الأصفر الخالص ، وإن خلط به غيره .
ومعلوم أن هذه المسألة من المسائل التي يرجع فيها إلى أهل الاختصاص من الصاغة ونحوهم ، لتعرف نسبة الذهب الخالص فيما يسمى بالذهب الأبيض .

قول أهل الخبرة :
وأهل الخبرة يقررون أن الذهب الأبيض كالذهب الأصفر من عيار ( 21 ) فمادون ، بحيث يكون الأصل هو الذهب ، ويختلف لون السبيكة بحسب المعادن التي تخلط معه ، وهي مقادير من النحاس والفضة والنيكل و البلاديوم و غيرها.
ويقوم الصاغة بعملية الخلط هذه لتكسب الذهب ظلالاً معينة كالحمرة والصفرة والخضرة ، وهكذا.
وقد اشتهر كثيراً هذه الأيام الذهب الأبيض، لجمال هذا اللون وكونه تقليعة عصرية ، جبلت النفوس على الإقبال عليها ، فيخلطون مع الذهب كمية من الزنك والنيكل والفضة للحصول على الذهب الأبيض ، ليستغنوا به عن البلاتين الباهظ الثمن .
ويتفاوت تقدير هؤلاء لنسبة الذهب المضافة إلى المعادن الأخرى ، فبعضهم يقول : إنه يضاف من الفضة ضعفان ونصف إلى الذهب الخالص ، ثم يعالَج بالحرارة ، لينتج بعد تخليصه من الشوائب " ذهب أبيض ".
وبعضهم يقول إنه يضاف جزء من البلاديوم إلى ستة أجزاء من الذهب بعيار (21) قيراطاً ، فينتج ذهب أبيض بعيار (18) قيراطاً .

والخلاصة أن ما يسمى بالذهب الأبيض الذي تتحلى به النساء اليوم هو ذهب حقيقة ، لكن أضيفت إليه نسبة محددة من معادن أخرى لتغيير لونه .
وهنالك نوع آخر يسمى " الذهب الأبيض " وليس ذهباً أصلاً ، إنما هو معدن " البلاتين "، وهو أغلى ثمناً من الذهب ، وهو في خصائصه يشبه الذهب ، ويعد في هذا العصر من السلع العالمية التي تتاجر البنوك العالمية بها بيعاً وشراءً ، وفي كثير من الأحيان يكون ذلك من قبيل " بيع المستقبليات "، المتفشي في البورصات العالمية ، وهو ـ بصورته الحالية ـ ممنوع شرعاً ، أعني بيع المستقبليات، لأنه باختصار بيع ما لا يملك، وفيه مصائبُ أخرى. وهذا الأخير لا يتوفر في محلات الذهب المحلية ، لغلاء ثمنه ، واستعاضة الناس عنه بالذهب المخلوط بمعادن أخرى.

الراجح:
من خلال ما سبق، وبعد التأمل في هذا المعدن؛ اتضح لي أن الذهب الأبيض نوعان:
1 ) الذهب الأبيض المستخلص من مزيجٍ من الذهب و معادن أخرى ، كالفضة والبلاديوم والنحاس وغيرها ، فهذا تجري عليه أحكام الذهب والفضة بقدر ما فيه منهما ، فلا يجوز الشرب والأكل بالآنية المصنوعة منه ، ولا يجوز للرجال التحلي به ، واتخاذ الخاتم والساعة المصنوعين منه ، وتجب فيه الزكاة بمقدار ما فيه من الذهب والفضة ؛ إذا قلنا بوجوب الزكاة في حلي المرأة وهو الراجح، ولا بيعه متفاضلاً أو نَساءً، وهكذا .
2 ) البلاتين: وهذا ليس بذهب أصلاً ، ولا تجري عليه أحكامه السابقة ، بل له أحكام سائر المعادن الأخرى ، فيجوز للرجال لبسه من غير سرف ولا مخيلة، وبيعه متفاضلاً ونَساءً ، بشرط أن يكون موجوداً مملوكاً لبائعه حال البيع ، أو يكون عقد سلم بشروطه .
وقد تردد الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ في إلحاقه بالذهب المعروف، وقال : ينبغي البحث في أحكامه .اهـ ، وكان عنده أسنان من البلاتين ، تركها تورعاً ـ رحمه الله ـ .فتاويه ( 4 / 68 ) .

وأما بخصوص لبس الساعة والنظارة المموهة أو المطلية بالذهب ففيه تفصيل كما يأتي:
أولاً: إذا كان المطلي لا يخرج منه شيءٌ إذ عرض على النار فلا إشكال عندي في جواز لبسه، لأن من لبسه لم يلبس "ذهباً"، وإنما لبس شيئاً مباحاً أصالةً، والذهب تابع مغلوب، فهو كلا شيء.
ثانياً: وكذا فإن أرجح القولين أنه لا بأس بلبس يسير الذهب التابع للساعة، كالعقارب والإطار والمسمار ونحوها، لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن الذهب إلا مقطعًا . وقد تقرَّر فقهاً: أن التوابع مغتفرة، ولذا أبيح للرجل لبس الحرير إذا كان إصبعين أو ثلاثة أو أربعة كما في مسلم عن عمر رضي الله عنه، كالطراز في "العباءة"، وهو الذي يسمونه "العلَم" بفتح اللام.
ثالثاً: أما ما كان مستقلاً فممنوع ، ولو كان يسيراً؛ كخاتم الذهب، فإنه حرامٌ على الرجل بلا ريب.
هذا بالطبع في اللباس خاصة، لا في الآنية، فإن باب اللباس أوسع من باب الآنية.
وهذا اختيار ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فإنه أجاز الطراز والعلَم في الثوب من الحرير والذهب، إذا كان تابعاً، أربع أصابع فما دون.
رابعاً: إذا كانت الساعة مصنوعة من الذهب الخالص، أو كان الذهب مكفتاً ـ أي يجعل صفائح يلف على أجزائها ـ، وكان شاملاً لأجزاء الساعة فهذا ممنوع ، لأنه لم يعد تابعاً حينئذٍ، بل هو غالب.
وقد جاء في مسائل أحمد رواية ابنه عبد الله (446):
ـ حدثنا قال: سألت أبي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً" ؟
ـ قال: "الشيء اليسير ".
ـ قلت: " فالخاتم " ؟
ـ قال: "روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن خاتم الذهب"اهـ.

وقال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوي (21/87):
( وفي يسير الذهب في باب اللباس عن أحمد أقوال:
أحدها: الرخصة مطلقا لحديث معاوية نهى عن الذهب إلا مقطعا ولعل هذا القول أقوى من غيره وهو قول أبى بكر.
والثاني: الرخصة في السلاح فقط.
والثالث: في السيف خاصة.
وفيه وجه: بتحريمه مطلقاً، لحديث أسماء لا يباح من الذهب ولا خريصة والخريصة عين الجرادة لكن هذا قد يحمل على الذهب المفرد دون التابع ولا ريب أن هذا محرم عند الأئمة الأربعة لأنه قد ثبت عن النبي أنه نهى عن خاتم الذهب وان كان قد لبسه من الصحابة من لم يبلغه النهي.
ولهذا فرق أحمد وغيره بين يسير الحرير مفردا كالتكة فنهى عنه وبين يسيره تبعا كالعلم إذ الإستثناء وقع في هذا النوع فقط
فكما يفرق في الرخصة بين اليسير والكثير فيفرق بين التابع والمفرد ويحمل حديث معاوية الا مقطعا على التابع لغيره )اهـ

والله تعالى أعلم.